الأحد، 3 مايو 2015

ثمار الاستغفار

هل تريد راحة البال وانشراح الصدر وسكينة النفس وطمأنينة القلب والمتاع الحسن ؟؟
عليك بالاستغفار : (وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعاً حسناً إلى أجل مسمى).

هل تريد قوة الجسم وصحة البدن والسلامة من العاهات والآفات والامراض والاوصاب ؟؟
عليك بالاستغفار : ( استغفروا ربكم ثم توبوا إليه  يرسل السماء عليكم مدراراً ويزدكم قوة إلي قوتكم ).

هل تريد دفع الكوارث والسلامة من الحوادث والأمن من الفتن والمحن ؟؟
عليك بالاستغفار : (وماكان الله ليعذبهم وأنت فيهم وماكان الله معذبهم وهم يستغفرون ).

هل تريد الغيث المدرار والذرية الطيبة والولد الصالح والمال الحلال والرزق الواسع ؟؟
عليك بالاسغفار : ( استغفروا ربكم إنه كان غفاراً يرسل السماء عليكم مدراراً ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهاراً).

هل تريد تكفير السيئات وزيادة الحسنات ورفع الدرجات ؟
عليك بالاستغفار : ( وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين ).

الاستغفار هو دواؤك الناجع وعلاجك الناجح من الذنوب والخطايا لذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإستغفار دائماً وأبداً بقوله : "يا أيها الناس استغفروا الله وتوبوا اليه فإني استغفر الله وأتوب إليه في اليوم مائة مرة".

والله يرضى عن المستغفر الصادق لأنه يعترف بذنبه ويستقبل ربه فكأنه يقول : يارب اخطأت واسأت وأذنبت وقصرت في حقك، وتعديت حقوقك، وظلمت نفسي، وغلبني الشيطان، وقهرني هواي، وغرتني نفسي الأمارة بالسوء، واعتمدت على سعة حلمك وكريم عفوك وعظيم جودك وكبير رحمتك .
فالآن جئت تائباً نادماً مستغفراً فاصفح عني واعف عني وسامحني وأقل عثرتي وامح خطيئتي فليس لي رب غيرك ولا إله سواك.

يــارب إن عـــظــمـــــــــت ذنـــوبـــي كثرة         فـــلـــقـــد عــلــمـت بأن عــفــــوك اعــظـــم
إن كـــــان لا يـــرجـــــوك إلا مــحــســــــن         فـــبــمــن يــلـــوذ ويــســتـجـيـر الــمـجـرم؟
مـــالــي الـــيـك وســيــلـة إلا الــــرضــــــا         وجــمــيــل عــفــوك ثــــم أني مــســـلــــــم

في حديث صحيح قال صلى الله عليه وسلم: "من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجاً ومن كل ضيق مخرجاً ، ورزقه من حيث لا يحتسب".

ومن اللطائف كان بعض المعاصرين عقيماً لا يولد له وقد عجز الأطباء عن علاجه وبارت الأدوية فيه ، فسأل أحد العلماء فقال : عليك بكثرة الاستغفار في الصباح والمساء فإن الله قال عن المستغفرين : (يمددكم بأموال وبنين ).

فأكثر الرجل من الاستغفار وداوم عليه فرزقة الله الذرية الصالحة.

فيا من مزقه القلق وأضناه الهم وعذبه الحزن عليك بالاستغفار فإنه يقشع سحب الهموم، ويزيل غيوم الغموم، وهو البلسم الشافي والدواء الكافي .

الحجاب حكم وأسرار

تعبد الله نساء المؤمنين بفرض الحجاب عليهن، الساتر لجميع أبدانهن، وزينتهن أمام الرجال الأجانب عنهن، تعبداً يثاب على فعله ويعاقب على تركه؛ ولهذا كان هتكه من الكبائر الموبقات، ويجر إلى الوقوع في كبائر أخرى، مثل: تعمد إبداء شيء من البدن، وتعمد إبداء شيء من الزينة المكتسبة، والاختلاط وفتنة الآخرين، إلى غير ذلك من آفات هتك الحجاب. فعلى نساء المؤمنين الاستجابة إلى الالتزام بما افترضه الله عليهن من الحجاب والستر والعفة والحياء طاعة لله تعالى، وطاعة لرسوله صلى الله عليه وسلم قال الله عز شأنه: "وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا " (الأحزاب 36) كيف ومن وراء افتراضه حكم وأسرار عظيمة، وفضائل محمودة، وغايات ومصالح كبيرة، منها:

أولاً: حفظ العرض: الحجاب حراسة شرعية لحفظ الأعراض، ودفع أسباب الريبة والفتنة والفساد.
ثانياً: طهارة القلوب: الحجاب داعية إلى طهارة قلوب المؤمنين والمؤمنات، وعمارتها بالتقوى، وتعظيم الحرمات. وصدق الله سبحانه "ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن".

ثالثاً: مكارم الأخلاق: الحجاب داعية إلى توفير مكارم الأخلاق من العفة والاحتشام والحياء والغيرة، والحجب لمساويها من التلوث بالشائنات كالتبذل والتهتك والسفالة والفساد.

رابعاً: علامة على العفيفات: الحجاب علامة شرعية على الحرائر العفيفات في عفتهن وشرفهن، وبعدهن عن دنس الريبة والشك: "ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين"، وصلاح الظاهر دليل على صلاح الباطن، وإن العفاف تاج المرأة، وما رفرفت العفة على دار إلا أكسبتها الهناء. ومما يستطرف ذكره هنا، أن النميري لما أنشد عند الحجاج قوله:
 يخمرن أطراف البنان من التقى **** ويخرجن جنح الليل معتجرات
قال الحجاج: وهكذا المرأة الحرة المسلمة.

خامساً: قطع الأطماع والخواطر الشيطانية: الحجاب وقاية اجتماعية من الأذى، وأمراض قلوب الرجال والنساء، فيقطع الأطماع الفاجرة، ويكف الأعين الخائنة، ويدفع أذى الرجل في عرضه، وأذى المرأة في عرضها ومحارمها، ووقاية من رمي المحصنات بالفواحش، وإبعاد قالة السوء، ودنس الريبة والشك، وغيرها من الخطرات الشيطانية.
ولبعضهم:
حور حرائر ما هممن بريبة ****كظباء مكة صيدهن حرام.

سادساً: حفظ الحياء: وهو مأخوذ من الحياة، فلا حياة بدونه، وهو خلق يودعه الله في النفوس التي أراد - سبحانه - تكريمها، فيبعث على الفضائل، ويدفع في وجوه الرذائل، وهو من خصائص الإنسان، وخصال الفطرة، وخلق الإسلام، والحياء شعبة من شعب الإيمان، وهو من محمود خصال العرب التي أقرها الإٍسلام ودعا إليها، قال عنترة العبسي:
وأغض طرفي إن بدت لي جارتي **** حتى يواري جارتي مأواها

فآل مفعول الحياء إلى التحلي بالفضائل، وإلى سياج رادع، يصد النفس ويزجرها عن تطورها في الرذائل، وما الحجاب إلا وسيلة فعالة لحفظ الحياء، وخلع الحجاب خلع للحياء.

سابعاً: الحجاب يمنع نفوذ التبرج والسفور والاختلاط إلى مجتمعات أهل الإسلام.

ثامناً: الحجاب حصانة ضد الزنا والإباحية، فلا تكون المرأة إناءً لكل والغ.

تاسعاً: المرأة عورة، والحجاب ساتر لها، وهذا من التقوى،
قال الله تعالى: "يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سوآتكم وريشاً ولباس التقوى ذلك خير" (الأعراف / 26). قال عبدالرحمن بن أسلم (رحمه الله تعالى) في تفسير هذه الآية: يتقي الله فيواري عورته فذاك لباس التقوى. وفي الدعاء المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم: ( اللهم استر عوراتي وآمن روعاتي ) رواه أبو داود وغيره. فاللهم استر عوارتنا وعورات نساء المؤمنين، آمين.

عاشراً: حفظ الغيرة: فالحجاب باعث عظيم على تنمية الغيرة على المحارم أن تنتهك، أو ينال منها، وباعث على توارث هذا الخلق الرفيع في الأسر والذراري، غيرة النساء على أعراضهن وشرفهن، وغيرة أوليائهن عليهن، وغيرة المؤمنين على محارم المؤمنين من أن تنال الحرمات، أو تخدش بما يجرح كرامتها وعفتها وطهارتها ولو بنظرة أجنبي إليها

واجعلنا للمتقين إماماً

يروي الإمام مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس، وكان أجود الناس، وكان أشجع الناس، ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة فانطلق ناس قبل الصوت، فتلقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعاً وقد سبقهم إلى الصوت وهو على فرس لأبي طلحة عرى في عنقه السيف وهو يقول: " أ لم تراعوا..لم تراعوا".

لقد سبق رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه إلى مكان الصوت ثم عاد ليطمئنهم ويهدىء من روعهم ويقول لهم: " لم ترعوا ..لم تراعوا". وهكذا يكون القدوات.

إن أزمة الأمة في هذه الأيام هي أزمة قدوات.. لقد ابتليت أمة الإسلام بأسماء لا مسميات لها، وبألقاب تفتقر إلى مضمون. لذا كثر المتكلمون وقل المؤثرون، ونُمقت العبارات وشُوهت الحقائق.

وما أجمل ما نقله الماوردي عن علي بن أبي طالب حيث قال: " إنما زهد الناس في طلب العلم لما يرون من قلة انتفاع من علم بما علم، وكان يقال: خير من القول فاعله، وخير من الصواب قائله، وخير من العلم حامله ".

ثم تبعه مالك بن دينار فأطلق صيحته المدوية قائلاً: " إن العالم إذا لم يعمل بعلمه زلت موعظته عن القلوب كما تزل القطرة عن الصفا ".

إن الحقيقة التي ينبغي أن يدركها الدعاة وأفراد الدعوة الإسلامية هي أنهم بمجرد التزامهم بالإسلام ومطالبتهم بتحكيمه واعتباره منهج حياة، أقول: بمجرد هذا الالتزام فإن الناس ينظرون إليهم نظرة دقيقة ويضعونهم تحت رقابة مجهرية. فرب عمل يقوم به المسلم الملتزم لا يلقي له بالاً هو في حساب عامة الناس من الكبائر لأنهم يعدونه قدوة لهم.

ومن ثم فإن حياة الداعية وسلوكه وطبيعة تصرفاته واهتماماته ليست مالكاً له وحده، فهو ليس حراً يفعل ما يشاء، ويدع ما يشاء، بل ينبغي أن يزن كل حركة وكل سكنة وأن يدرك تأثيرها على الناس.

لذا قال أحد السلف: " كنا نخوض ونلعب فلما وجدنا أنه يُقتدى بنا أمسكنا ".

لماذا يعصي الناس ربهم؟

لا شك أن هناك أسبابًا تجعل العبد يجترئ على معصية ربه عز وجل، وينسى ما أمره به سبحانه وتعالى، وهذه الأسباب تتنوع، فمنها ما هو نابع من الشخص نفسه، ومنها ما هو نابع من المجتمع من حوله، ومنها ما هو مشترك ما بين الشخص والمجتمع.
وفي هذا المقال نسلط الضوء على أهم هذه الأسباب لنكشفها، حتى نحاول بعد ذلك مقاومتها والتغلب عليها، فالعلاج الناجع يبدأ بالتشخيص الصحيح للمرض، ومعرفة دواعيه وأسبابه ومقاومتها، ثم بعد ذلك تناول الدواء الشافي الذي يطهر العبد من المرض نهائيًّا، ويطرد منه العلل إن شاء الله.

1 - الغفلة عن الهدف:
إن من أشد أسباب الجرأة على المعصية: عدم إدراك المرء للهدف الذي خلقه الله عز وجل من أجله، والغاية التي ينبغي أن يعيش من أجلها.
وكثير من الناس تجد أهدافهم محصورة وقاصرة على الدنيا وعلائقها، كل همهم في الحياة إشباع شهواتهم، وإرضاء نزواتهم، والبعض لا يعلم له هدفًا أصلاً، وإنما يعيش في هذه الحياة هملاً كما يعيش الحيوان، لا يعلم لِمَ خُلق، ولا لِمَ يعيش.
وقد حدد الخالق سبحانه وتعالى للإنسان هدفه وغايته، فقال عز وجل: "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ والإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُون".
إذن، فهدف الإنسان وغايته التي ينبغي أن يعيش من أجلها، هي عبادة الله عز وجل وحده، بالمفهوم الشامل، وبكل ما تحمله كلمة العبادة من معانٍ صحيحة، وهي التي عرَّفها لنا العلماء بقولهم: (إن العبادة هي كل ما يرضاه الله عز وجل من الأقوال والأفعال، الظاهرة والباطنة).
فكل قول باللسان، وكل فعل بالجوارح، وكل شعور وإحساس ظاهر أو باطن، ينبغي أن يُوجَّه لله عز وجل، ويتحول إلى عبادة له سبحانه وتعالى، ويعني ذلك دمج كل الأهداف والغايات المحصورة والقاصرة في هذا الهدف الأكبر، وهذا الدمج يعطي لها امتدادًا ورفعة وسموًّا، يربط الإنسان بخالقه عز وجل، ويجعله ينفلت من جاذبية الطين والماء، ويحلق مع الملأ الأعلى.

2 - ضعف الإيمان:
لا شك في أن ضعف الإيمان بالله عز وجل وباليوم الآخر سبب كبير للإقدام على المعصية، فالعبد يعصي لأنه يحب شيئًا لا يحبه الله أو يبغض شيئًا يحبه الله، أما الإيمان الكامل فيجعل العبد يحب ما يحبه الله عز وجل ويبغض ما يبغضه الله عز وجل، يقول صلى الله عليه وسلم: "لا يُؤمِنُ أحَدُكُم حَتَّى يكُونُ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْتُ بِه".
والإنسان ساعة المعصية لا يرى الله عز وجل، ولا يرى ثواب المطيعين ولا عقاب العاصين، إنه لا يرى إلا لذة الذنب وتزيين الشيطان له، فهو كالعصفور الذي يرى الحب في الفخ، ولا يرى الفخ الذي فيه هلاكه، فيقتحم مُسرعًا فيهلك والعياذ بالله.

3 - الجهل بالله عز وجل وأمره ونهيه وثوابه وعقابه:
إن الجهل هو السمة المميزة للمجترئين على معصية الله عز وجل؛ لأنهم لو عرفوا ربهم معرفة صحيحة لأحبوه وعظموه وأطاعوا أمره، وعلموا أنه سبحانه وتعالى أهل لأن يُتَّقَى، ولو تعلموا دينهم وشرعهم لوجدوا بغيتهم وسعادتهم فيه، ولو علموا ثواب الله عز وجل وعقابه لرغبوا في الثواب وخافوا من العقاب.
وقد قرن النبي صلى الله عليه وسلم بين رفع العلم وثبوت الجهل وظهور المعاصي في آخر الزمان، فقال صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يُرْفَعَ الْعِلْمُ وَيَثْبُتَ الْجَهْلُ وَيُشْرَبَ الْخَمْرُ وَيَظْهَرَ الزنى".
وقال ابن القيم رحمه الله: إن النفوس الجاهلة التي لا علم عندها قد ألبست ثوب الذل والإزراء عليها والتنقص بها أسرع منه إلى غيرها.

4 - وسوسة الشيطان:
إن الشيطان هو العدو الأول للإنسان، فهو لا يهنأ ولا يهدأ له بال حتى يستدرج الإنسان إلى المعصية، وهو كما أخبر صلى الله عليه وسلم: " إن الشيطان يجري  من الإنسان مجرى الدم في العروق".
والشيطان -لعنه الله- يسير معك ويستدرجك خطوة خطوة، ويقتحم بك عقبة عقبة، لا يكل ولا يمل، فقد قطع العهد على نفسه بذلك.
ولقد حدد ابن القيم -رحمه الله تعالى- ثلاث جهات يدخل منها الشيطان على العبد: الإسراف في المباحات، والغفلة عن ذكر الله، وتكلُّف ما لا يعنيه.

5 - الاغترار بعفو الله:
كثير من الناس يقضي عمره يجمع المعاصي والسيئات، ومع ذلك يتعلق بحبال الأماني، وعنده أمل في أن يدخل الجنة بغير حساب، أو لا تمسه النار إلا أيامًا معدودة.
وتجد هؤلاء يتعلقون بأن الله عز وجل غفور رحيم، وأنه يتجاوز عن السيئات ويعفو ويصفح ويغفر، وينسون أن الله عز وجل كما أنه غفور رحيم لمن تاب وأناب، فهو سبحانه وتعالى منتقم جبار لمن عصى واستكبر. وقد قال عز وجل في سورة الحجر: "نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الغَفُورُ الرَّحِيمُ * وأَنَّ عَذَابِي هُوَ العَذَابُ الأَلِيمُ".

6 - القنوط من رحمة الله:
إن بعض العصاة يستعظمون ذنوبهم، وييأسون من إمكانية غفران الله عز وجل لهم؛ وذلك لأنهم أفنوا سنوات طويلة من أعمارهم غارقين في الرذيلة، لا يتورعون عن حُرمة، مضيعين للفرائض، متبعين للشهوات، متعدين للحدود!!. فيظن الواحد من هؤلاء أنه هالك لا محالة، وأنه سيدخل النار حتمًا، فيجعله هذا الاعتقاد يستمر في عصيانه، ويترك قياده للشيطان يجره حيث شاء!!.
ولقد نسي هذا وأمثاله أن مغفرة الله عز وجل أوسع وأكبر من ذنوبهم وإن كثرت، وأن رحمته سبحانه وتعالى لا تضيق يومًا بخطاياهم وإن تفاقمت، فقد قال عز وجل في سورة الزمر: "قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيم". إن الخوف من الله عز وجل مطلوب، ولكن المبالغة فيه قد تنتهي بالإنسان إلى اليأس من روح الله، والقنوط من رحمته.

7 - الاحتجاج بقدر الله:
من الناس من يقول: ما دام كل شيء بقدر الله، فإن الله إذا شاء أن يهديني اهتديت وأقلعت عن المعصية، وإن لم يشأ أن يهديني فلن أهتدي!!.
وهذه حجة باطلة لا يُقصَد بها إلا الهروب من مواجهة النفس بالحقيقة، فإن الله عز وجل الذي أخبرنا أن كل شيء خلقه بقدر، هو نفسه سبحانه وتعالى الذي أمرنا بطاعته ونهانا عن معصيته، ووعدنا الجزاء الأوفى يوم القيامة.
ولو أن هذا المتكاسل عن العبادة النشيط في المعصية، قيل له: لا تستذكر دروسك، ونم طول العام، ولو قُدِّر لك النجاح ستنجح، أو إذا مرض قيل له: لا تذهب إلى الطبيب ولا تأخذ دواءً، ولو قُدِّر لك الشفاء ستُشفى، لو قيل له ذلك لهب قائلاً: إن كل نتيجة لها سبب يؤدي إليها، ولا بد من الأخذ بهذا السبب لتحقيق هذه النتيجة، فالاستذكار سبب لحصول النجاح، والتداوي سبب لحصول الشفاء‍‍!!.
لماذا نحتج بالقدر في أمر الدين والآخرة، ونأخذ بالأسباب ونجتهد في أمور الدنيا؟!.

8 - الاحتجاج بحسن النية:
كثير من الناس يحتجون على انحرافهم ومعاصيهم، وتقصيرهم في القيام بفرائض الإسلام، بحسن نواياهم، وأن الله سبحانه وتعالى رب قلوب، وأنه طالما أن القلب سليم، والنية صالحة فلا تضر المعصية، ولا يضر ترك الفريضة!!.
وقد تضافرت النصوص الشرعية التي تأمر بإصلاح الباطن، مع النصوص الشرعية التي تأمر بإصلاح الظاهر، وبالعبادات والتكاليف الظاهرة، وعلى المسلم أن يجمع بين هذه النصوص وتلك، فيصلح ظاهره وباطنه معًا، فأنت مطالب بإصلاح الاثنين، الظاهر والباطن، وليس أحدهما فقط. يقول عز وجل في سورة الأنعام: "وذَرُوا ظَاهِرَ الإثْمِ وبَاطِنَهُ إنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ". وقديمًا قالوا: الطريق إلى جهنم مفروش بالنوايا الحسنة.

9 - طول الأمل:
طول الأمل معناه أن يعتبر الإنسان أن الحياة ستمتد معه وتطول، وأن الموت لا يزال بعيدًا، وأن في العمر متسعًا لمزيد من اللهو والغفلة، والسير في ركاب الشيطان.
وطول الأمل يجعل الإنسان غافلاً عن حقائق كثيرة، وغفلته عن هذه الحقائق لا يجعلها أوهام، ولا يعفيه من التعرض لها، فإنها ستظل حقائق سواء صدَّق بها أو كذَّب، تذكرها أم غفل عنها. فمن هذه الحقائق: حقيقة الموت، وحقيقة الحياة في القبر في عذاب أو في نعيم، وحقيقة البعث يوم النشور، وحقيقة العرض على الملك الجبار، والسؤال عن القليل والكثير، وحقيقة المرور على الصراط، وحقيقة الخلود، إما في جنة عرضها السموات والأرض، وإما في نار وقودها الناس والحجارة. ومن هذه الحقائق أيضًا: حقيقة ضمان الرزق والأجل، وحقيقة حقارة الدنيا وهوانها على الله عز وجل.

10 - حب الدنيا:
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "حُبُّ الدُّنيَا رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَة"، وقال أيضًا صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَحَبَّ دُنْيَاهُ أَضَرَّ بِآخِرَتِهِ، وَمَنْ أَحَبَّ آخِرَتَهُ أَضَرَّ بِدُنْيَاهُ، فَآثِرُوا مَا يَبْقَى عَلَى مَا يَفْنَى".
وقال يحيى بن معاذ: الدنيا خمر الشيطان، من شربها لم يفق إلا بين عساكر الموتى، نادمًا بين الخاسرين، قد ترك منها لغيره ما جَمَع، وتعلق بحبل غرورها فانقطع، وقدم على من يحاسبه على الفتيل والنقير والقطمير، فيما كُتِبَ عليه من الصغير والكبير، يوم تزل بالعُصاة القدم، ويندم المسيء على ما قدم.

11 - اتباع الهوى:
يقول صلى الله عليه وسلم: "الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا، وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ". ويقول أيضًا: "ثَلاثٌ مُهْلِكَات: شُحٌّ مُطَاعٌ، وهَوًى مُتَّبَعٌ، وإعْجَابُ المَرْءِ بِنَفْسِهِ".
وقال السلف: إنما سُمِّي هوى؛ لأنه يهوي بصاحبه في النار. والهوى يدعو إلى تحصيل اللذة الحاضرة من غير تفكير في العاقبة، ويحث على نيل الشهوات عاجلاً، وإن كانت سببًا للألم والأذى في العاجل، ومنع لذات في الآجل.

12 - اقتحام الشبهات:
والشبهات هي الأمور المختلطة التي لا يعلم كثير من الناس، أحلال هي أم حرام، وقد قيل: الشبهة أخت الحرام. فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الْحَلالَ بَيِّنٌ، وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَن اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ، أَلا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ".

13 - الكِبْر:
يقول عز وجل في سورة البقرة: "وإذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ العِزَّةُ بِالإثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ ولَبِئْسَ المِهَادُ"، إن هذه صفة الكافر والمنافق الذاهب بنفسه زهوًا واختيالاً، يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: كفى بالمرء إثمًا أن يقول له أخوه: اتق الله، فيقول: عليك بنفسك، مثلك يوصيني!.
وبهذا الداء امتنع عبد الله بن أبي بن سلول عن الإيمان، وبه تخلف الإيمان عن أبي جهل، وكذلك سائر المشركين، فإنهم كلهم لم يكونوا يرتابون في صدقه صلى الله عليه وسلم، وأن الحق معه، ولكن حملهم الكبر على الكفر والعناد.

14 - مخالطة أهل المعاصي وقرناء السوء
قال بعض السلف: ليس شيء أضر على القلب من مخالطة الفاسقين والنظر إلى أفعالهم. وقُل لي من صاحبك، أقول لك من أنت.
ومخالطة العصاة تجعل القلب يألف المعصية ويجترئ عليها، فينساق وراء العصاة وهو لا يدري. والرفيق السيئ قاطع طريق بينك وبين الله، فكلما سلكت درب الله عز وجل حاول أن يصرفك عنه إلى طريق الغواية، وعندما يأتي يوم القيامة سيتبرئ منك، ويلقي باللوم كله عليك، وساعتها تتمنى لو أعطيت لك الفرصة لتتبرأ منه كما تبرأ هو منك، ولكن لا تجد سوى الحسرة والندم، يقول رب العزة سبحانه وتعالى في سورة الفرقان: "ويَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا ويْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إذْ جَاءَنِي وكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإنسَانِ خَذُولاً".

15 - شيوع الفتن وفساد المجتمع:
من الناس من يعرض عن دينه، وينهمك في المعاصي، ويقول: أكثر الناس يفعلون هكذا، لماذا أخالف الكثرة؟ ولماذا أشذ عن المجتمع؟ إني أفعل كما يفعل الناس!! وهل معقول أن هذه الكثرة الغالبة على خطأ؟ وهل سيعذب الله عز وجل كل هؤلاء الناس؟.
أما سمع من يقول ذلك ويغتر بهذه الشبهة الفاسدة، آيات القرآن الكريم التي نزلت تتْرى لتحذر الناس من الاغترار بالكثرة العاصية الهالكة؟؟
يقول عز وجل في سورة الأنعام: "وإن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ"، ويقول في سورة يوسف: "ومَا أَكْثَرُ النَّاسِ ولَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ"، ويقول في سورة الأعراف: "ولَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ".
كما أن النبي صلى الله عليه وسلم أوضح لنا أن الله عز وجل لا يبالي بكثرة العاصين وقلة الطائعين، ولا يضره سبحانه وتعالى أن يعذب أهل الأرض جميعًا إن عصوه، والدليل على ذلك أن نسبة من يدخل الجنة إلى من يدخل النار هي واحد في الألف!!. فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يَقُولُ اللَّهُ: يَا آدَمُ.. فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ.. قَالَ: يَقُولُ: أَخْرِجْ بَعْثَ النَّارِ.. قَالَ: وَمَا بَعْثُ النَّارِ؟ قَالَ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَمِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ".
فهل تضمن أن تكون أنت هذا الواحد بين ألف ممن حولك؟؟.
فينبغي للمسلم أن يأنف لنفسه من أن ينعق مع الناعقين، ويسدر مع السادرين، ويحمل المباخر للعصاة الظالمين، ويسير في ركابهم، متخليًا عن دينه وعقيدته، تائهًا في زحامهم، بل ينبغي له أن يقاوم الذوبان في هذه اللجة، مستعينًا بالله عز وجل، وبالرفقة الصالحة والغرباء من أمثاله، يقول صلى الله عليه وسلم: "لا تَكُونُوا إِمَّعَةً، تَقُولُونَ: إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا، وَإِنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنَا، وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ: إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا، وَإِنْ أَسَاءُوا فَلا تَظْلِمُوا".
وليس الضعف وكثرة العصاة بعذر مقبول عند الله عز وجل للمُضِي في طريق المعصية، فأرض الله واسعة، وفي الهجرة مندوحة للمستضعفين، إن لم يستطيعوا حماية دينهم وعقيدتهم، يقول عز وجل في سورة النساء: "إنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وسَاءَتْ مَصِيرًا".
فلا تستوحش الطريق أخي الحبيب، لقلة سالكيه، ولكن اطمئن لوعد الله ووعد رسوله، واعلم أنك على الحق المبين.

16 - اختلاط المفاهيم والمصطلحات:
أحيانًا ما يطلق الناس -بحُسْن نية أو بسوء نية- بعض المصطلحات والمفاهيم، ويسمون الأشياء بأسماء معينة، فتكتسب الأسماء أو المسميات معانٍ أخرى تخالف الحقيقة، فتجعل الحرام حلالاً، والمفروض مكروهًا ومُعابًا.
وتشيع تلك الأسماء والمصطلحات والمفاهيم، فيحدث نتيجة لذلك سوء الفهم، وتنشأ الشبهات، وتشتد الخصومات.
من هذه المصطلحات: (التعصب)، و(التطرف)، و(الرجعية)، و(الإرهاب)، و(المجاملة). ومن هذه المفاهيم: (العمل عبادة)، و(روح الشريعة لا نصوصها)، و(الدين يُسر).
ولو نحينا تلك المصطلحات المحدثة، والمفاهيم المغلوطة في ذاتها، أو المغلوطة في فهم معانيها، ورجعنا عن هذه الأسماء العرفية، ورجعنا إلى الأصول الصحيحة لها، لتبين لنا وجه الحق.

17 - سلطان العادة:
وهذا السبب وإن كان أضعف الأسباب فهو أغلبها على الناس، فدين العادة هو الغالب على أكثر الناس، والانتقال عنه كالانتقال من طبيعة إلى طبيعة ثانية. ولذا قيل: "خير عادة ألا تكون لك عادة".

18 - ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن السكوت عن المنكر إذا علم به المرء أو رآه، وكان في استطاعته تغييره دون مفاسد، فإن السكوت على المنكر من أفظع الأمور التي تضيع كرامة المرء في الدنيا وتوجب العقاب الشديد في الآخرة.
وبيّن أن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبب للعنة، فقال عز وجل في سورة المائدة: "لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ"، وقال صلى الله عليه وسلم معلقًا على هذه الآية: "إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمَّا وَقَعَ فِيهِمْ النَّقْصُ، كَانَ الرَّجُلُ فِيهِمْ يَرَى أَخَاهُ عَلَى الذَّنْبِ فَيَنْهَاهُ عَنْهُ، فَإِذَا كَانَ الْغَدُ لَمْ يَمْنَعْهُ مَا رَأَى مِنْهُ أَنْ يَكُونَ أَكِيلَهُ وَشَرِيبَهُ وَخَلِيطَهُ، فَضَرَبَ اللَّهُ قُلُوبَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ، وَنَزَلَ فِيهِمْ الْقُرْآنُ"، وَكَانَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُتَّكِئًا فَجَلَسَ، فَقَالَ: "لا، حَتَّى تَأْخُذُوا عَلَى يَدِ الظَّالِمِ فَتَأْطُرُوهُ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا".

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجنبنا طرق وأسباب معصيته، وأن يهدينا إلى طريق طاعته وتقواه، وأن يبلغنا رضاه.. اللهم آمين.

اعرف نبيك صلى الله عليه وسلم

 الحمد لله الذي أوضح لنا سبيل الهداية، وأزاح عن بصائرنا ظلمة الغواية، والصلاة والسلام على النبي المصطفى والرسول المجتبى، المبعوث رحمة للعالمين، وقدوة للمالكين، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها المسلمون: إن من خير ما بذلت فيه الأوقات، و شغلت به الساعات هو دراسة السيرة النبوية العطرة، والأيام المحمدية الخالدة، فهي تجعل المسلم كأنه يعيش تلك الأحداث العظام التي مرت بالمسلمين، وربما تخيل أنه واحد من هؤلاء الكرام البررة التي قامت على عواتقهم صروح المجد ونخوة البطولة.
وفي السيرة يتعرف المسلم على جوانب متعددة من شخصية النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم ، وأسلوبه في حياته ومعيشته، ودعوته في السلم والحرب.
وفيها أيضاً: يتلمس المسلم نقاط الضعف والقوة؛ وأسباب النصر والهزيمة، وكيفية التعامل مع الأحداث وإن عظمت.
وبدراسة السيرة النبوية يستعيد المسلمون ثقتهم بأنفسهم، ويوقنون بأن الله معهم وناصرهم، إن هم قامو بحقيقة العبودية، له والانقياد لشريعته: { إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ } [محمد:7]، { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ } [غافر:51]. { وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } [الحج:40].
وهذه عبارة عن رؤوس أقلام وجمل يسيرة في سيرة النبي المصطفى عليه الصلاة والسلام، قصد بها فتح الطريق أمام ناشئة المسلمين وشبيبتهم لدراسات أعمق لهذه السيرة النبوية الخالدة. قال الله تعالى: { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ } [الفتح:29].
نسبه صلى الله عليه وسلم :
هو أبو القاسم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان. هذا هو المتفق عليه في نسبه صلى الله عليه وسلم واتفقوا أيضاً أن عدنان من ولد إسماعيل عليه السلام.
أسماؤه صلى الله عليه وسلم :
عن جبير بن مطعم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: { إن لي أسماء، وأنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدميَّ، وأنا العاقب الذي ليس بعده أحد } [متفق عليه]. وعن أبي موسى الأشعري قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمي لنا نفسه أسماء فقال: { أنا محمد، وأحمد، والمقفي، والحاشر، ونبي التوبة، ونبي الرحمة } [مسلم].
طهارة نسبه صلى الله عليه وسلم :
اعلم رحمني الله وإياك أن نبينا المصطفى على الخلق كله قد صان الله أباه من زلة الزنا، فولد صلى الله عليه وسلم من نكاح صحيح ولم يولد من سفاح، فعن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: { إن الله عز وجل اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل، واصطفى من ولد إسماعيل كنانة، واصطفى من بني كنانة قريشاً، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم } [مسلم]، وحينما سأل هرقل أبا سفيان عن نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: { هو فينا ذو نسب، فقال هرقل: كذلك الرسل تبعث في نسب قومها } [البخاري].
ولادته صلى الله عليه وسلم :
ولد صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين في شهر ربيع الأول، قيل في الثاني منه، وقيل في الثامن، وقيل في العاشر، وقيل في الثاني عشر. قال ابن كثير: والصحيح أنه ولد عام الفيل، وقد حكاه إبراهيم بن المنذر الحزامي شيخ البخاري، وخليفة بن خياط وغيرهما إجماعاً.
قال علماء السير: لما حملت به آمنة قالت: ما وجدت له ثقلاً، فلما ظهر خرج معه نور أضاء ما بين المشرق والمغرب.
وفي حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: { إني عند الله في أم الكتاب لخاتم النبيين، وإن آدم لمنجدلٌ في طينته، وسأنبئكم بتأويل ذلك، دعوة إبراهيم، وبشارة عيسى قومه، ورؤيا أمي التي رأت، انه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام } [أحمد والطبراني].
وتوفي أبوه صلى الله عليه وسلم وهو حَمْل في بطن أمه، وقيل بعد ولادته بأشهر وقيل بسنة، والمشهور الأول.

رضاعه صلى الله عليه وسلم :
أرضعته ثويبة مولاة أبي لهب أياماً، ثم استُرضع له في بني سعد، فأرضعته حليمة السعدية، وأقام عندها في بني سعد نحواً من أربع سنين، وشُقَّ عن فؤاده هناك، واستخرج منه حظُّ النفس والشيطان، فردته حليمة إلى أمه إثر ذلك.
ثم ماتت أمه بالأبواء وهو ذاهب إلى مكة وهو ابن ست سنين، ولما مرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأبواء وهو ذاهب إلى مكة عام الفتح، استأذن ربّه في زيارة قبر أمه فأذن له، فبكى وأبكى من حوله وقال: { زوروا القبور فإنها تذكر بالموت } [مسلم]. فلما ماتت أمه حضنته أم أيمن وهي مولاته ورثها من أبيه، وكفله جده عبد المطلب، فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من العمر ثماني سنين توفي جده، وأوصى به إلى عمه أبي طالب فكفله، وحاطه أتم حياطة، ونصره وآزره حين بعثه الله أعزّ نصر وأتم مؤازرة مع أنه كان مستمراً على شركه إلى أن مات، فخفف الله بذلك من عذابه كما صح الحديث بذلك.

صيانة الله تعالى له صلى الله عليه وسلم من دنس الجاهلية:
وكان الله سبحانه وتعالى قد صانه وحماه من صغره، وطهره من دنس الجاهلية ومن كل عيب، ومنحه كل خُلقٍ جميل، حتى لم يكن يعرف بين قومه إلا بالأمين، لما شاهدوه من طهارته وصدق حديثه وأمانته، حتى أنه لما أرادت قريش تجديد بناء الكعبة في سنة خمس وثلاثين من عمره، فوصلوا إلى موضع الحجر الأسود اختلفوا فيمن يضعه أول داخل عليهم، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: جاء الأمين، فرضوا به، فأمر بثوبٍ، فوضع الحجر في وسطه، وأمر كل قبيلة أن ترفع بجانب من جوانب الثوب، ثم أخذ الحجر فوضعه موضعه صلى الله عليه وسلم . [أحمد والحاكم وصححه].

زواجه صلى الله عليه وسلم :
تزوجته خديجة وله خمس وعشرون سنة، وكان قد خرج إلى الشام في تجارة لها مع غلامها ميسرة، فرأى ميسرة ما بهره من شأنه، وما كان يتحلى به من الصدق والأمانة، فلما رجع أخبر سيدته بما رأى، فرغبت إليه أن يتزوجها.
وماتت خديجة رضي الله عنها قبل الهجرة بثلاث سنين، ولم يتزوج غيرها حتى ماتت، فلما ماتت خديجة رضي الله عنها تزوج عليه السلام سودة بنت زمعة، ثم تزوج صلى الله عليه وسلم عائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، ولم يتزوج بكراً غيرها، ثم تزوج حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، ثم تزوج زينب بنت خزيمة بن الحارث رضي الله عنها، وتزوج أم سلمة واسمها هند بنت أمية رضي الله عنها، وتزوج زينب بنت جحش رضي الله عنها، ثم تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم جويرية بنت الحارث رضي الله عنها، ثم تزوج أم حبيبة رضي الله عنها واسمها رملة وقيل هند بنت أبي سفيان. وتزوج إثر فتح خيبر صفية بنت حييّ بن أخطب رضي الله عنها، ثم تزوج ميمونة بنت الحارث رضي الله عنها، وهي آخر من تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم .

أولاده صلى الله عليه وسلم :
كل أولاده صلى الله عليه وسلم من ذكر وأنثى من خديجة بنت خويلد، إلا إبراهيم، فإنه من مارية القبطية التي أهداها له المقوقس.

فالذكور من ولده:
القاسم وبه كان يُكنى، وعاش أياماً يسيرة، والطاهر والطيب.
وقيل: ولدت له عبدالله في الإسلام فلقب بالطاهر والطيب. أما إبراهيم فولد بالمدينة وعاش عامين غير شهرين ومات قبله صلى الله عليه وسلم بثلاثة أشهر.

بناته صلى الله عليه وسلم :
زينب وهي أكبر بناته، وتزوجها أبو العاص بن الربيع وهو ابن خالتها، ورقية تزوجها عثمان بن عفان رضي الله عنه، وفاطمة تزوجها علي بن أبي طالب رضي الله عنه فأنجبت له الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، وأم كلثوم تزوجها عثمان بن عفان رضي الله عنه بعد رقية رضي الله عنهن جميعاً. قال النووي: فالبنات أربع بلا خلاف. والبنون ثلاثة على الصحيح.

مبعثه صلى الله عليه وسلم :
بعث صلى الله عليه وسلم لأربعين سنة، فنزل عليه الملك بحراء يوم الاثنين لسبع عشرة ليلة خلت من رمضان، وكان إذا نزل عليه الوحي اشتد ذلك عليه وتغيّر وجهه وعرق جبينه.
فلما نزل عليه الملك قال له: اقرأ.. قال: لست بقارئ، فغطاه الملك حتى بلغ منه الجهد، ثم قال له: اقرأ.. فقال: لست بقارئ ثلاثاً. ثم قال: { اقْرأْ بِاسْمِ رَبّكَ الَّذي خَلَقَ، خَلَقَ الإنسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ ورَبُّكَ الأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الإنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } [العلق:1-5]. فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خديجة رضي الله عنها يرتجف، فأخبرها بما حدث له، فثبتته وقالت: أبشر، وكلا والله لا يخزيك أبداً، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحملُّ الكَلَّ، وتعين على نوائب الدهر.
ثم فتر الوحي، فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يمكث لا يرى شيئاً، فاغتم لذلك واشتاق إلى نزول الوحي، ثم تبدى له الملك بين السماء والأرض على كرسيّ، وثبته، وبشره بأنه رسول الله حقاً، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم خاف منه وذهب إلى خديجة وقال: زملوني.. دثروني، فأنزل الله عليه: { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنذِرْ، وَرَبَّكَ فَكَبِّر، وَثِيَابَكَ فَطَهِّر } [المدثر:1-4]. فأمر الله تعالى في هذه الآيات أن ينذر قومه، ويدعوهم إلى الله، فشمَّر صلى الله عليه وسلم عن ساق التكليف، وقام في طاعة الله أتم قيام، يدعو إلى الله تعالى الكبير والصغير، والحر والعبد، والرجال والنساء، والأسود والأحمر، فاستجاب له عباد الله من كل قبيلة ممن أراد الله تعالى فوزهم ونجاتهم في الدنيا والآخرة، فدخلوا في الإسلام على نور وبصيرة، فأخذهم سفهاء مكة بالأذى والعقوبة، وصان الله رسوله وحماه بعمه أبي طالب، فقد كان شريفاً مطاعاً فيهم، نبيلاً بينهم، لا يتجاسرون على مفاجأته بشيء في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لما يعلمون من محبته له.
قال ابن الجوزي: وبقي ثلاث سنين يتستر بالنبوة، ثم نزل عليه: { فاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَر } [الحجر:94]. فأعلن الدعاء. فلما نزل قوله تعالى: { وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ } [الشعراء:214]، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد الصفا فهتف ( يا صباحاه! ) فقالوا: من هذا الذي يهتف؟ قالوا: محمد! فاجتمعوا إليه فقال: ( أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً تخرج بسفح هذا الجبل أكنتم مصدقي؟ قالوا ما جربنا عليك كذباً. قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد. فقال أبو لهب: تباً لك، أما جمعتنا إلا لهذا؟ ثم قام، فنزل قوله تعالى: { تَبَّتْ يَدَا أبِي لَهَبٍ وَتَبْ } إلى آخر السورة. [متفق عليه].

صبره صلى الله عليه وسلم على الأذى:
ولقي صلى الله عليه وسلم الشدائد من قومه وهو صابر محتسب، وأمر أصحابه أن يخرجوا إلى أرض الحبشة فرارا من الظلم والاضطهاد فخرجوا.
قال ابن إسحاق: فلما مات أبو طالب نالت قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأذى ما لم تطمع فيه حياته، وروى أبو نعيم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: { لما مات أبو طالب تجهَّموا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا عم ما أسرع ما وجدت فقدك }.
وفي الصحيحين: أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي، وسلا جزورٍ قريب منه، فأخذه عقبة بن أبي معيط، فألقاه على ظهره، فلم يزل ساجداً، حتى جاءت فاطمة فألقنه عن ظهره، فقال حينئذ: { اللهم عليك بالملأ من قريش }. وفي أفراد البخاري: أن عقبة بن أبي معيط أخذ يوماً بمنكبه صلى الله عليه وسلم ، ولوى ثوبه في عنقه، فخنقه به خنقاً شديداً، فجاء أبو بكر فدفعه عنه وقال أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله؟

رحمته صلى الله عليه وسلم بقومه:
فلما اشتد الأذى على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاة أبي طالب وخديجة رضي الله عنها، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف فدعا قبائل ثقيف إلى الإسلام، فلم يجد منهم إلا العناد والسخرية والأذى، ورموه بالحجارة حتى أدموا عقبيه، فقرر صلى الله عليه وسلم الرجوع إلى مكة. قال صلى الله عليه وسلم : { انطلقت – يعني من الطائف – وأنا مهموم على وجهي، فلم استفق إلا وأنا بقرن الثعالب – ميقات أهل نجد – فرفعت رأسي فإذا سحابة قد أظلتني، فنظرت، فإذا فيها جبريل عليه السلام، فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردّوا عليك، وقد أرسل لك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، ثم ناداني ملك الجبال، قد بعثني إليك ربك لتأمرني بما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين – جبلان بمكة – فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً } [متفق عليه].
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج في كل موسم، فيعرض نفسه على القبائل ويقول: { من يؤويني؟ من ينصرني؟ فإن قريشاً قد منعوني أن أبلغ كلام ربي! }.
ثم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقي عند العقبة في الموسم ستة نفر فدعاهم فأسلموا، ثم رجعوا إلى المدينة فدعوا قومهم، حتى فشا الإسلام فيهم، ثم كانت بيعة العقبة الأولى والثانية، وكانت سراً، فلما تمت أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان معه من المسلمين بالهجرة إلى المدينة، فخرجوا أرسالاً.

هجرته صلى الله عليه وسلم إلى المدينة:
ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وأبو بكر إلى المدينة فتوجه إلى غار ثور، فأقاما فيه ثلاثاً، وعني أمرهم على قريش، ثم دخل المدينة فتلقاه أهلها بالرحب والسعة، فبنى فيها مسجده ومنزله.

غزواته صلى الله عليه وسلم :
عن ابن عباس رضي الله عنه قال: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة قال أبو بكر: أخرجوا نبيهم إنا لله وإنا إليه راجعون، لَيهَلِكُنَّ، فأنزل الله عز وجل: { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا } [الحج:39]. وهي أول آية نزلت في القتال. وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعاً وعشرين غزاة، قاتل منها في تسع: بدر، وأحد، والريسيع، والخندق، وقريظة، وخيبر، والفتح، وحنين، والطائف، وبعثَ ستاً وخمسين سرية.

حج النبي صلى الله عليه وسلم واعتماره :
لم يحج النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن هاجر إلى المدينة إلا حجة واحدة، وهي حجة الوداع. فالأولى عمرة الحديبية التي صدّه المشركون عنها. والثانية عمرة القضاء، والثالثة عمرة الجعرانة، والرابعة عمرته مع حجته.

صفته صلى الله عليه وسلم :
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ربعة، ليس بالطويل ولا بالقصير، أزهر اللون - أي أبيض بياضاً مشرباً بحمرة - أشعر، أدعج العينين –أي شديد سوادهما – أجرد –أي لا يغطي الشعر صدره وبطنه -، ذو مَسرُبه – أي له شعر يكون في وسط الصدر والبطن.

أخلاقه صلى الله عليه وسلم :
كان صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وأصدقهم لهجة، وألينهم طبعاً، وأكرمهم عشرة، قال تعالى: { َإنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظيمٍ } [القلم:4]. وكان صلى الله عليه وسلم أشجع الناس وأعف الناس وأكثرهم تواضعاً، وكان صلى الله عليه وسلم أشد حياء من العذراء في خدرها، يقبل الهدية ويكافئ عليها، ولا يقبل الصدقة ولا يأكلها، ولا يغضب لنفسه، وإنما يغضب لربه، وكان صلى الله عليه وسلم يأكل ما وجد، ولا يدُّ ما حضر، ولا يتكلف ما لم يحضره، وكان لا يأكل متكئاً ولا على خوان، وكان يمر به الهلال ثم الهلال ثم الهلال، وما يوقد في أبياته صلى الله عليه وسلم نار، وكان صلى الله عليه وسلم يجالس الفقراء والمساكين ويعود المرضى ويمشي في الجنائز.
وكان صلى الله عليه وسلم يمزح ولا يقول إلا حقاً، ويضحك من غير قهقهة، وكان صلى الله عليه وسلم في مهنة أهله، وقال: { خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي } [الترمذي وصححه الألباني]، قال أنس بن مالك رضي الله عنه: خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لشيء فعلته: لم فعلته، ولا لشيء لم أفعله، ألا فعلت كذا!!.
وما زال صلى الله عليه وسلم يلطف بالخلق ويريهم المعجزات، فانشق له القمر، ونبع الماء من بين أصابعه، وحنَّ إليه الجذع، وشكا إليه الجمل، وأخبر بالغيوب فكانت كما قال.

فضله صلى الله عليه وسلم :
عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: { أعطيت خمساً لم يعطهن أحدٌ قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم ولم تحل قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه، وبعثت إلى الناس كافة } [متفق عليه]. وفي أفراد مسلم من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: { أنا أول الناس يشفع يوم القيامة، وأنا أكثر الأنبياء تبعاً يوم القيامة، وأنا أول من يقرع باب الجنة }. وفي أفراده من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: { أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشقُّ عنه القبر، وأول شافع وأول مُشفع }.

عبادته ومعيشته صلى الله عليه وسلم :
 قالت عائشة رضي الله عنها: { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم حتى تتفطر قدماه، فقيل له في ذلك، فقال: أفلا أكون عبداً شكوراً } [متفق عليه]، وقالت: وكان مضجعه الذي ينام عليه في الليل من أَدَمَ محشوّاً ليفاً!! وفي حديث ابن عمر رضي الله عنه قال: لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يظلُّ اليوم يَلتَوي ما يجد دِقْلاً يملأ بطنه – والدقل ردئ التمر -!! ما ضره من الدنيا ما فات وهو سيد الأحياء والأموات، فالحمد لله الذي جعلنا من أمته، ووفقنا الله لطاعته، وحشرنا على كتابه وسنته آمين، آمين.

من أهم الأحداث:
الإسراء والمعراج : وكان قبل الهجرة بثلاث سنين وفيه فرضت الصلاة.
السنة الأولى : الهجرة - بناء المسجد - الانطلاق نحو تأسيس الدولة - فرض الزكاة.
السنة الثانية : غزوة بدر الكبرى وفيها أعز الله المؤمنين ونصرهم على عدوهم.
السنة الثالثة : غزوة أحد وفيها حدثت الهزيمة بسبب مخالفة تعليمات النبي صلى الله عليه وسلم ونظر الجنود إلى الغنائم.
السنة الرابعة : غزوة بني النضير وفيها أجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يهود بني النضير عن المدينة لأنهم نقضوا العهد بينهم وبين المسلمين.
السنة الخامسة : غزوة بني المصطلق وغزوة الأحزاب وغزوة بني قريظة.
السنة السادسة : صلح الحديبية، وفي هذه السنة حُرّمت الخمر تحريماً قاطعاً.
السنة السابعة : غزوة خيبر، وفي هذه السنة دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون مكة واعتمروا، وفيها أيضاً تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم صفية بنت حُيَيّ.
السنة الثامنة : غزوة مؤتة بين المسلمين والروم، وفتح مكة وغزوة حُنين ضد قبائل هوازن وثقيف.
السنة التاسعة : غزوة تبوك وهي آخر غزواته صلى الله عليه وسلم ، وفي هذه السنة قدمت الوفود على رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل الناس في دين الله أفواجاً، وسمي هذا العام عام الوفود.
السنة العاشرة : حجة الوداع، و حج فيها مع النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من مائة ألف مسلم.
السنة الحادية عشرة : وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان ذلك في يوم الاثنين من شهر ربيع الأول مع اختلاف في تحديد هذا اليوم من الشهر. وتوفي صلى الله عليه وسلم وله من العمر ثلاث وستون سنة، منها أربعون سنة قبل النبوة، وثلاث وعشرون سنة نبياً رسولاً، منها ثلاث عشرة سنة في مكة، وعشر سنين بالمدينة، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

المراجع:
- تهذيب الأسماء واللغات للنووي.
- التبصرة والحدائق لابن الجوزي.
- زاد المعاد لابن القيم.
- السيرة النبوية للذهبي.
- جوامع السيرة النبوية لابن حزم.
- الفصول في سيرة الرسول (ابن كثير).
- صحيح السيرة النبوية، إبراهيم العلي.

فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وبعد:
فإن الله تعالى بقدرته وسلطانه بعث نبينا محمد صلى الله عليه وسلم  وخصّه وشرّفه تبليغ الرسالة فكان رحمةً للعالمين وإماماً للمتقين وجعله هادياً للطريق القويم فلزم على العباد طاعته وتوقيره والقيام بحقوقه ومن حقوقه أن الله اختصه بالصلاة عليه وأمرنا بذلك في كتابه الحكيم وسنة نبيه الكريم حيث كتب مضاعفة الأجر لمن صلّى عليه فما أسعد من وفق لذلك فاللهم صل وسلم على نبيك وخليلك محمد ما تعاقب الليل والنهار.

معنى الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم :

قال الله تعالى:( إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً )[الأحزاب:56].
قال ابن كثير رحمه الله: ( المقصود من هذه الآية أن الله سبحانه وتعالى أخبر عباده بمنزلة عبده ونبيه عنده في الملأ الأعلى بأنه تصلي عليه الملائكة ثم أمر الله تعالى العالم السفلي بالصلاة والسلام عليه، ليجتمع الثناء عليه من أهل العالمين العلوي والسفلي جميعاً ) أ.هـ.
قال ابن القيم - رحمه الله تعالى - في جلاء الأفهام: ( والمعنى أنه إذا كان الله وملائكته يصلون على رسوله فصلوا عليه أنتم أيضاً صلوا عليه وسلموا تسليماً لما نالكم ببركة رسالته ويمن سفارته، من خير شرف الدنيا والآخرة ) أ.هـ.
وقد ذُكر في معنى الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم أقوال كثيرة، والصواب ما قاله أبو العالية: إن الصلاة من الله ثناؤه على المصلي عليه في الملأ الأعلى أي عند الملائكة المقربين - أخرجه البخاري في صحيحه تعليقاً مجزوماً به - وهذا أخص منه في الرحمة المطلقة - وهذا ترجيح سماحة الشيخ محمد بن عثيمين.
والسلام: هو السلامة من النقائص والآفات فإن ضم السلام إلى الصلاة حصل به المطلوب وزال به المرهوب فبالسلام يزول المرهوب وتنتفي النقائص وبالصلاة يحصل المطلوب وتثبت الكمالات - قاله الشيخ محمد بن عثيمين.

حكم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم :

أما في التشهد الأخير فهو ركن من أركان الصلاة - عند الحنابلة.
وقال القاضي أبو بكر بن بكير: ( افترض الله على خلقه أن يصلوا على نبيه ويسلموا تسليماً، ولم يجعل ذلك لوقت معلوم. فالواجب أن يكثر المرء منها ولا يغفل عنها ).

المواطن التي يستحب فيها الصلاة والسلام على النبي ويرغب فيها:

1- قبل الدعاء:
قال فضالة بن عبيد: سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يدعو في صلاته فلم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم  فقال النبي صلى الله عليه وسلم : { عجل هذا! } ثم دعاه فقال له ولغيره: { إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد الله والثناء عليه، ثم يصلي على النبي، ثم ليدع بعد بما يشاء } [رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح وأخرجه أحمد بإسناد صحيح وصححه ابن حبّان والحاكم ووافقه الذهبي].
وقد ورد في الحديث: { الدعاء محجوب حتى يصلي الداعي على النبي صلى الله عليه وسلم } [رواه الطبراني في الأوسط ورجاله ثقات].
وقال ابن عطاء: ( للدعاء أركان وأجنحة وأسباب وأوقات. فإن وافق أركانه قوي، وإن وافق أجنحته طار في السماء، وإن وافق مواقيته فاز، وإن وافق أسبابه نجح.
فأركانه: حضور القلب والرقة والاستكانة والخشوع وتعلق القلب بالله وقطعه الأسباب، وأجنحته الصدق، ومواقيته الأسحار، وأسبابه الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ).

2- عند ذكره وسماع اسمه أو كتابته:

قال صلى الله عليه وسلم : { رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل عليّ } [رواه الترمذي وقال حديث حسن غريب من هذا الوجه والحاكم وقال الألباني إسناده صحيح ورجاله رجال الصحيح].

3- الإكثارمن الصلاة عليه يوم الجمعة:
عن أوس بن أوس قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة فأكثروا عليّ من الصلاة فيه فإن صلاتكم معروضة عليّ.. } الحديث [رواه أبو داود بإسناد صحيح وأخرجه أحمد وصححه ابن حبان والحاكم ووافقه الذهبي].

4- الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الرسائل وما يكتب بعد البسملة:
قال القاضي عياض: ( ومن مواطن الصلاة التي مضى عليها عمل الأمة ولم تنكرها: ولم يكن في الصدر الأول، وأحدث عند ولاية بني هاشم - الدولة العباسية - فمضى عمل الناس في أقطار الأرض. ومنهم من يختم به أيضاً الكتب ).

5- عند دخول المسجد وعند الخروج منه:
عن فاطمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إذا دخلت المسجد فقولي بسم الله الرحمن الرحيم والسلام على رسول الله اللهم صل على محمد وعلى آل محمد واغفر لنا وسهل لنا أبواب رحمتك فإذا فرغت فقولي ذلك غير أن قولي: وسهل لنا أبواب فضلك } [رواه ابن ماجه والترمذي وصححه الألباني بشواهده].

كيفية الصلاة والتسليم على النبي صلى الله عليه وسلم:

قال الله تعالى:( إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب:56] فالأفضل أن تقرن الصلاة والسلام سوياً استجابةً لله عز وجل فهذا هو المجزئ في صفة الصلاة عليه الصلاة والسلام.
وعن أبي محمد بن عجرة قال: خرج علينا النبي صلى الله عليه وسلم  فقلت: يا رسول الله قد علمنا كيف نسلم عليك فكيف نصلي عليك؟ فقال: { قولوا اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على آل ابراهيم إنك حميد مجيد } [متفق عليه].
وعن أبي حميد الساعد قال: قالوا يا رسول الله كيف نصلي عليك؟ قال: { قولوا اللهم صل على محمد وعلى أزواجه وذريته كما صليت على إبراهيم، وبارك على محمد وعلى أزواجه كما باركت على إبراهيم، إنك حميد مجيد } [متفق عليه].
وفي هذين الحديثين دلالة على الصفة الكاملة للصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم .

فضيلة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم  والسلام عليه:

عن عمر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم  يقول: { إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول وصلوا عليّ فإنه من صلّى عليّ مرة واحدة صلى الله عليه عشراً ثم سلوا لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا هو فمن سأل لي الوسيلة حلت عليه الشفاعة } [رواه مسلم].

قال صلى الله عليه وسلم : { من صلّى عليّ حين يصبح عشراً وحين يمسي عشراً أدركته شفاعتي } [أخرجه الطبراني في الكبير وحسنه الألباني].

وقال صلى الله عليه وسلم : { من صلّى عليّ واحدة صلى الله عليه بها عشراً } [رواه مسلم وأحمد والثلاثة].

وعن عبدالرحمن بن عوف قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم  وهو ساجد فأطال السجود قال: { أتاني جبريل وقال: من صلّى عليك صليت عليه ومن سلّم عليك سلمت عليه فسجدت شكراً لله } [رواه الحاكم وأحمد والجهضمي وقال الحاكم: صحيح ولم يخرجاه وقال الألباني: صحيح لطرقه وشواهده].

وعن يعقوب بن زيد بن طلحة التيمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { أتاني آت من ربي فقال: ما من عبد يصلي عليك صلاة إلا صلى الله عليه بها عشراً } فقام إليه رجل فقال: يا رسول الله أجعل نصف دعائي لك! قال: { إن شئت }. قال: ألا أجعل ثلث دعائي!. قال: { إن شئت }. قال: ألا أجعل دعائي كله قال: { إذن يكفيك الله هم الدنيا والآخرة } [رواه الجهضمي وقال الألباني هذا مرسل صحيح الأسناد].

وعن عبدالله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: { إن لله ملائكة سياحين يبلغونني من أمتي السلام } [رواه النسائي والحاكم وصححه ووافقه الذهبي وقال الألباني إسناده صحيح ورجاله رجال الصحيح].

وقال صلى الله عليه وسلم : { من صلّى عليّ واحدةً صلّى الله عليه عشر صلوات وحط عنه عشر خطيئات ورفع له عشر درجات } [رواه أحمد والبخاري في الأدب المفرد والنسائي والحاكم وصححه الألباني].

وعن ابن مسعود مرفوعاً: { أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم عليّ صلاة } [رواه الترمذي وقال حسن غريب رواه ابن حبان].
وعن جابر بن عبدالله، قال: قال النبي : { من قال حين يسمع النداء اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة، آت محمداً الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته، حلت له الشفاعة يوم القيامة } [رواه البخاري في صحيحه].

ذم من لم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم:

عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { رغم أنف رجل ذُكرت عنده فلم يصلّ عليّ، رغم أنف رجل دخل رمضان ثم انسلخ قبل أن يُغفر له، ورغم أنف رجل أدرك أبواه عند الكبر فلم يُدخلاه الجنة } قال عبدالرحمن وهو أحد رواة الحديث وعبدالرحمن بن إسحاق وأظنه قال: { أو أحدهما } [رواه الترمذي والبزار قال الألباني في صحيح الترمذي حسن صحيح].

وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم  قال: { البخيل كل البخل الذي ذكرت عنده فلم يصلّ عليّ } [أخرجه النسائي والترمذي وصححه الألباني في صحيح الجامع].

عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم : { من نسي الصلاة عليّ خطئ طريق الجنة } [صححه الألباني في صحيح الجامع].
وعن أبي هريرة قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم : { أيّما قوم جلسوا مجلساً ثم تفرقوا قبل أن يذكروا الله ويصلوا على النبي كانت عليهم من الله تره إن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم } [أخرجه الترمذي وحسنه أبو داود].

وحكى أبو عيسى الترمذي عن بعض أهل العلم قال: ( إذا صلى الرجل على النبي صلى الله عليه وسلم   مرة في مجلس أجزأ عنه ما كان في ذلك المجلس ).

الفوائد والثمرات الحاصلة بالصلاة عليه صلى الله عليه وسلم :

ذكر ابن القيم 39 فائدة للصلاة على النبي منها:
1- امتثال أمر الله سبحانه وتعالى.
2- حصول عشر صلوات من الله على المصلي مرة.
3- يكتب له عشر حسنات ويمحو عنه عشر سيئات.
4- أن يرفع له عشر درجات.
5- أنه يرجى إجابة دعائه إذا قدمها أمامه فهي تصاعد الدعاء إلى عند رب العالمين.
6- أنها سبب لشفاعته صلى الله عليه وسلم  إذا قرنها بسؤال الوسيلة له، أو إفرادها.
7- أنها سبب لغفران الذنوب.
8- أنها سبب لكفاية الله ما أهمه.
9- أنها سبب لقرب العبد منه صلى الله عليه وسلم  يوم القيامة.
10- أنها سبب لصلاة الله على المصلي وصلاة الملائكة عليه.
11- أنها سبب لرد النبي صلى الله عليه وسلم  الصلاة والسلام على المصلي.
12- أنها سبب لطيب المجلس، وأن لا يعود حسرة على أهله يوم القيامة.
13- أنها سبب لنفي الفقر.
14- أنها تنفي عن العبد اسم ( البخيل ) إذا صلى عليه عند ذكره صلى الله عليه وسلم .
15- أنها سبب لإلقاء الله سبحانه وتعالى الثناء الحسن للمصلي عليه بين أهل السماء والأرض، لأن المصلي طالب من الله أن يثني على رسوله ويكرمه ويشرفه، والجزاء من جنس العمل فلا بد أن يحصل للمصلي نوع من ذلك.
16- أنها سبب للبركة في ذات المصلي وعمله وعمره وأسباب مصالحه لأن المصلي داع ربه أن يبارك عليه وعلى آله وهذا الدعاء مستجاب والجزاء من جنسه.
17- أنها سبب لعرض اسم المصلي عليه صلى الله عليه وسلم  وذكره عنده كما تقدم قوله صلى الله عليه وسلم : { إن صلاتكم معروضة عليّ } وقوله صلى الله عليه وسلم : { إن الله وكّل بقبري ملائكة يبلغونني عن أمتي السلام } وكفى بالعبد نبلاً أن يذكر اسمه بالخير بين يدي رسول الله .
18- أنها سبب لتثبيت القدم على الصراط والجواز عليه لحديث عبدالرحمن بن سمرة الذي رواه عنه سعيد بن المسيب في رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم  وفيه: { ورأيت رجلاً من أمتي يزحف على الصراط ويحبو أحياناً ويتعلق أحياناً، فجاءته صلاته عليّ فأقامته على قدميه وأنقذته } [رواه أبو موسى المديني وبنى عليه كتابه في "الترغيب والترهيب" وقال: هذا حديث حسن جداً].
19- أنها سبب لدوام محبة الرسول صلى الله عليه وسلم  وزيادتها وتضاعفها، وذلك عقد من عقود الإيمان الذي لا يتم إلا به لأن العبد كلما أكثر من ذكر المحبوب واستحضاره في قلبه واستحضار محاسنه ومعانيه الجالبة لحبه فسيتضاعف حبّه له وتزايد شوقه إليه، واستولى على جميع قلبه، وإذا أعرض عن ذكره وإحضار محاسنه يغلبه، نقص حبه من قلبه، ولا شيء أقر لعين المحب من رؤية محبوبه ولا أقر لقلبه من ذكر محاسنه، وتكون زيادة ذلك ونقصانه بحسب زيادة الحب ونقصانه في قلبه والحس شاهد بذلك.
20- أنها سبب لهداية العبد وحياة قلبه، فإنه كلما أكثر الصلاة عليه  صلى الله عليه وسلم  وذكره، استولت محبته على قلبه، حتى لا يبقى في قلبه معارضة لشيء من أوامره، ولا شك في شيء مما جاء به، بل يصير ما جاء به مكتوباً مسطوراً في قلبه ويقتبس الهدي والفلاح وأنواع العلوم منه، فأهل العلم العارفين بسنته وهديه المتبعين له كلما ازدادوا فيما جاء به من معرفة، ازدادوا له محبة ومعرفة بحقيقة الصلاة المطلوبة له من الله.

وصلى الله وسلم على نبينا وعلى آله وصحبه أجمعين.

الحرية في الإسلام

جعل الإسلام "الحرية" حقاً من الحقوق الطبيعية للإنسان، فلا قيمة لحياة الإنسان بدون الحرية، وحين يفقد المرء حريته، يموت داخلياً، وإن كان في الظاهر يعيش ويأكل ويشرب، ويعمل ويسعى في الأرض. ولقد بلغ من تعظيم الإسلام لشأن "الحرية" أن جعل السبيل إلى إدراك وجود الله تعالى هو العقل الحر، الذي لا ينتظر الإيمان بوجوده بتأثير قوى خارجية، كالخوارق والمعجزات ونحوها قال تعالى:((لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي )) فنفي الإكراه في الدين، الذي هو أعز شيء يملكه الإنسان، للدلالة على نفيه فيما سواه وأن الإنسان مستقل فيما يملكه ويقدر عليه لا يفرض عليه أحد سيطرته، بل يأتي هذه الأمور، راضياً غير مجبر، مختاراً غير مكره.

1/ مفهوم الحرية: يقصد بالحرية قدرة الإنسان على فعل الشيء أوتركه بإرادته الذاتية وهي ملكة خاصة يتمتع بها كل إنسان عاقل ويصدر بها أفعاله ،بعيداً عن سيطرة الآخرين لأنه ليس مملوكاً لأحد لا في نفسه ولا في بلده ولا في قومه ولا في أمته.

هل "الحرية" تعني الإطلاق من كل قيد ؟
لا يعني بطبيعة الحال إقرار الإسلام للحرية أنه أطلقها من كل قيد وضابط، لأن الحرية بهذا الشكل أقرب ما تكون إلى الفوضى، التي يثيرها الهوى والشهوة ، ومن المعلوم أن الهوى يدمر الإنسان أكثر مما يبنيه ، ولذلك منع من اتباعه، والإسلام ينظر إلى الإنسان على أنه مدني بطبعه، يعيش بين كثير من بني جنسه، فلم يقر لأحد بحرية دون آخر، ولكنه أعطى كل واحد منهم حريته كيفما كان، سواء كان فرداً أو جماعة، ولذلك وضع قيوداً ضرورية، تضمن حرية الجميع ، وتتمثل الضوابط التي وضعها الإسلام في الآتي :
أ- ألا تؤدي حرية الفرد أو الجماعة إلى تهديد سلامة النظام العام وتقويض أركانه.
ب- ألا تفوت حقوقاً أعظم منها،وذلك بالنظر إلى قيمتها في ذاتها ورتبتها ونتائجها.
ج - ألا تؤدي حريته إلى الإضرار بحرية الآخرين.
وبهذه القيود والضوابط ندرك أن الإسلام لم يقر الحرية لفرد على حساب الجماعة ،كما لم يثبتها للجماعة على حساب الفرد ،ولكنه وازن بينهما ،فأعطى كلاً منهما حقه.


أنواع الحرية:
- الحرية المتعلقة بحقوق الفرد المادية
- الحرية المتعلقة بحقوق الفرد المعنوية


الصنف الأول : الحرية المتعلقة بحقوق الفرد المادية ، وهذا الصنف يشمل الآتي:
أ - الحرية الشخصية: والمقصود بها أن يكون الإنسان قادراً على التصرف في شئون نفسه، وفي كل ما يتعلق بذاته، آمناً من الاعتداء عليه، في نفسه وعرضه وماله، على ألا يكون في تصرفه عدوان على غيره. والحرية الشخصية تتضمن شيئين :
1) حرمة الذات: وقد عنى الإسلام بتقرير كرامة الإنسان ، وعلو منزلته. فأوصى باحترامه وعدم امتهانه واحتقاره ، قال تعالى:((ولقد كرمنا بني آدم)) ، وقال تعالى:((وإذ قال ربك للملائكة اني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون)) وميزه بالعقل والتفكير تكريماً له وتعظيماً لشأنه، وتفضيلاً له على سائر مخلوقاته، وفي الحديث عن عائشة – رضي الله عنها – مرفوعاً : " أول ما خلق الله العقل قال له اقبل ، فأقبل ، ثم قال له : أدبر فأدبر ، ثم قال له عز وجل: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقاً أكرم علي منك، بك آخذ، وبك أعطي، وبك أثيب، وبك أعاقب"، وفي هذه النصوص ما يدعو إلى احترام الإنسان، وتكريم ذاته، والحرص على تقدير مشاعره، وبذلك يضع الإسلام الإنسان في أعلى منزلة، وأسمى مكان حتى أنه يعتبر الاعتداء عليه اعتداء على المجتمع كله، والرعاية له رعاية للمجتمع كله ، قال تعالى :((من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض ، فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً)). وتقرير الكرامة الإنسانية للفرد، يتحقق أياً كان الشخص، رجلاً أو امراة، حاكماً أو محكوماً، فهو حق ثابت لكل إنسان، من غير نظر إلى لون أو جنس أو دين. حتى اللقيط في الطرقات و نحوها، يجب التقاطه احتراما لذاته و شخصيته، فإذا رآه أحد ملقى في الطريق، وجب عليه أخذه، فإن تركوه دون التقاطه أثموا جميعاً أمام الله تعالى، و كان عليهم تبعة هلاكه. هذا و كما حرص الإسلام على احترام الإنسان حياً، فقد أمر بالمحافظة على كرامته ميتاً، فمنع التمثيل بجثته، و ألزم تجهيزه و مواراته ،و نهى عن الاختلاء و الجلوس على القبور.

2) تأمين الذات: بضمان سلامة الفرد و أمنة في نفسه و عرضه و ماله:
فلا يجوز التعرض له بقتل أو جرح، أو أي شكل من أشكال الاعتداء، سواء كان على البدن كالضرب و السجن و نحوه، أو على النفس و الضمير كالسب أو الشتم و الازدراء و الانتقاص وسوء الظن و نحوه، و لهذا قرر الإسلام زواجر و عقوبات، تكفل حماية الإنسان و وقايته من كل ضرر أو اعتداء يقع عليه، ليتسنى له ممارسة حقه في الحرية الشخصية. وكلما كان الاعتداء قوياً كان الزجر أشد، ففي الاعتداء على النفس بالقتل و جب القصاص، كما قال تعالى : ((يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى))، أو كان الاعتداء على الجوارح بالقطع و جب القصاص أيضاً كما قال تعالى :((و كتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس و العين بالعين و الأنف بالأنف و الأذن بالأذن و السن بالسن و الجروح قصاص)) و منع عمر بن الخطاب –رضي الله عنه – الولاة من أن يضربوا أحداً إلا أن يكون بحكم قاض عادل، كما أمر بضرب الولاة الذين يخالفون ذلك بمقدار ما ضربوا رعاياهم بل إنه في سبيل ذلك منع الولاة من أن يسبوا أحداً من الرعية، ووضع عقوبة على من يخالف ذلك.

ب-حرية التنقل (الغدو و الرواح ): والمقصود بها أن يكون الإنسان حراً في السفر والتنقل داخل بلده وخارجه دون عوائق تمنعه. والتنقل بالغدو والرواح حق إنساني طبيعي ،تقتضيه ظروف الحياة البشرية من الكسب والعمل وطلب الرزق والعلم ونحوه ،ذلك أن الحركة شأن الأحياء كلها ،بل تعتبر قوام الحياة وضرورتها وقد جاء تقرير ((حرية التنقل )) بالكتاب والسنة والإجماع ففي الكتاب قوله تعالى : ((هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه و أليه النشور)) و لا يمنع الإنسان من التنقل إلا لمصلحة راجحة ،كما فعل عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – في طاعون عمواس، حين منع الناس من السفر إلى بلاد الشام الذي كان به هذا الوباء، و لم يفعل ذلك الا تطبيقاً لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم: (إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه و إذا وقع بأرض و انتم بها فلا تخرجوا فرار منه)، و لأجل تمكين الناس من التمتع بحرية التنقل حرم الإسلام الاعتداء على المسافرين، والتربص لهم في الطرقات، و أنزل عقوبة شديدة على الذين يقطعون الطرق ويروعون الناس بالقتل و النهب و السرقة، قال تعالى : ((إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله و يسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم و أرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا و لهم في الآخرة عذاب عظيم)) و لتأكيد حسن استعمال الطرق و تأمينها نهى النبي صلى الله عليه و سلم صحابته عن الجلوس فيها، فقال: (إياكم و الجلوس في الطرقات ،قالوا: يا رسول الله ،ما لنا بد في مجالسنا، قال: فإن كان ذلك، فأعطوا الطريق حقها، قالوا: و ما حق الطريق يا رسول الله ؟قال: غض البصر و كف الأذى، و رد السلام، و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر )، فالطرق يجب أن تفسح لما هيئ لها من السفر و التنقل و المرور، و أي استعمال لغير هدفها محظور لا سيما إذا أدي إلى الاعتداء على الآمنين، و لأهمية التنقل في حياة المسلم وأنه مظنة للطوارئ، فقد جعل الله تعالى ابن السبيل- وهو المسافر- أحد مصارف الزكاة إذا ألم به ما يدعوه إلى الأخذ من مال الزكاة ، ولو كان غنياً في موطنه .

ج-حرية المأوى و المسكن: فمتى قدر الإنسان على اقتناء مسكنه ،فله حرية ذلك، كما أن العاجز عن ذلك ينبغي على الدولة أن تدبر له السكن المناسب، حتى تضمن له أدنى مستوى لمعيشته.
روى أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه-أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان معه فضل زاد فليعد به على من لا زاد له)، وقد استدل الإمام ابن حزم بهذا الحديث وغيره على أن أغنياء المسلمين مطالبون بالقيام على حاجة فقرائهم إذا عجزت أموال الزكاة والفيئ عن القيام بحاجة الجميع من الطعام والشراب واللباس والمأوى الذي يقيهم حر الصيف وبرد الشتاء وعيون المارة، والدولة هي التي تجمع هذه الأموال وتوزعها على المحتاجين ولا فرق في هذا بين المسلمين وغيرهم لأن هذا الحق يشترك فيه جميع الناس كاشتراكهم في الماء والنار فيضمن ذلك لكل فرد من أفراد الدولة بغض النظر عن دينه.
فإذا ما ملك الإنسان مأوى و مسكن ،فلا يجوز لأحد ،أن يقتحم مأواه ،أو يدخل منزله إلا بإذنه، حتى لو كان الداخل خليفة، أو حاكماً أعلى –رئيس دولة- ما لم تدع إليه ضرورة قصوى أو مصلحة بالغة، لأن الله تعالى يقول :((يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا و تسلموا على أهلها ذلكم خيركم لعلكم تذكرون، فإن لم تجدوا فيها أحداً فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم و إن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم و الله بما تعملون عليم )) و إذا نهى عن دخول البيوت بغير إذن أصحابها، فالاستيلاء عليها أو هدمها أو إحراقها من باب أولى، إلا إذا كان ذلك لمصلحة الجماعة، بعد ضمان البيت ضماناً عادلاً، و هذه المصلحة قد تكون بتوسعة مسجد، أو بناء شارع، أو إقامة مستشفى، أو نحو ذلك، و قد أجلى عمر بن الخطاب –رضي الله عنه –أهل نجران، و عوضهم بالكوفة. ولحفظ حرمة المنازل وعظمتها حرم الإسلام التجسس، فقال تعالى :(( و لا تجسسوا و لا يغتب بعضكم بعضا )) وذلك لأن في التجسس انتهاكا لحقوق الغير والتي منها :حفظ حرمة المسكن، وحرية صاحبه الشخصية بعدم الاطلاع على أسراره. بل و بالغ الإسلام في تقرير حرية المسكن بأن أسقط القصاص والدية عمن انتهك له حرمة بيته، بالنظر فيه و نحوه، يدل على ذلك حديث أبى هريرة –رضي الله عنه-أنه سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : (من اطلع في دار قوم بغير إذنهم ففقأوا عينه فقد هدرت عينه) وهدرت:أي لاضمان على صاحب البيت. فعين الإنسان –رغم حرمتها وصيانتها من الاعتداء عليها وتغليظ الدية فيها –لكنها هنا أهدرت ديتها بسب سوء استعمالها واعتدائها على حقوق الغير .

د-حرية التملك: و يقصد بالتملك حيازة الإنسان للشيء و امتلاكه له، و قدرته على التصرف فيه، و انتفاعه به عند انتقاء الموانع الشرعية،  و له أنواع و وسائل نوجزها في الآتي:
1) أنواع الملكية: للملكية أو التملك نوعان بارزان،هما:تملك فردي ،و تملك جماعي.
فالتملك الفردي: هو أن يحرز الشخص شيئاً ما ،و ينتفع به على وجه الاختصاص و التعين.
وقد أعطى الإسلام للفرد حق التملك، و جعله قاعدة أساسية للاقتصاد الإسلامي، و رتب على هذا الحق نتائجه الطبيعية في حفظه لصاحبه، و صيانته له عن النهب و السرقة ،و الاختلاس و نحوه ،ووضع عقوبات رادعة لمن اعتدى عليه ،ضمانا له لهذا الحق ،و دفعا لما يتهدد الفرد في حقه المشروع .كما أن الإسلام رتب على هذا الحق أيضا نتائجه الأخرى، وهي حرية التصرف فيه بالبيع أو الشراء و الإجارة و الرهن و الهبة و الوصية و غيرها من أنواع التصرف المباح.
غير أن الإسلام لم يترك (التملك الفردي) مطلقاً من غير قيد، ولكنه وضع له قيوداً كي لا يصطدم بحقوق الآخرين، كمنع الربا و الغش و الرشوة و الاحتكار و نحو ذلك، مما يصطدم ويضيع مصلحة الجماعة .و هذه الحرية لا فرق فيها بين الرجل و المرأة قال الله تعالى : ((للرجال نصيب مما اكتسبوا و للنساء نصيب مما اكتسبن )).
أما النوع الثاني:فهو التملك الجماعي :و هو الذي يستحوذ عليه المجتمع البشري الكبير، أو بعض جماعاته، و يكون الانتفاع بآثاره لكل أفراده، و لا يكون انتفاع الفرد به إلا لكونه عضواً في الجماعة، دون أن يكون له اختصاص معين بجزء منه، مثاله :المساجد والمستشفيات العامة والطرق والأنهار والبحار وبيت المال ونحو ذلك. و ما ملك ملكاً عاماً يصرف في المصالح العامة ،و ليس لحاكم أو نائبه أو أي أحد سواهما أن يستقل به أو يؤثر به أحد ليس له فيه استحقاق بسب مشروع وإنما هو مسؤول عن حسن إدارته و توجيهه التوجيه الصحيح الذي يحقق مصالح الجماعة ويسد حاجاتها.
2) وسائل الملكية: و هي طرق اكتسابها التي حددها الإسلام و عينها و حرم ما سواها ويمكن تقسيمها أيضا إلى قسمين :وسائل الملكية الفردية و الجماعية.
- وسائل الملكية الفردية ،و لها مظهران:
المظهر الأول :الأموال المملوكة ،أي المسبوقة بملك ،و هذه الأموال لا تخرج من ملك صاحبها إلى غيره إلا بسب شرعي كالوراثة ،أو الوصية ،أو الشفعة ، أو العقد ،أو الهبة ،أو نحوها.
المظهر الثاني :الأموال المباحة ،أي غير المسبوقة بملك شخص معين ،و هذه الأموال لا يتحقق للفرد تملكها إلا بفعل يؤدي إلى التملك و وضع اليد ،كإحياء موات الأرض و الصيد ،واستخراج ما في الأرض من معادن ،و إقطاع ولي الأمر جزءاً من المال لشخص معين،والعمل ،و نحوه .
على أن ثمة قيوداً على الملكية الفردية ،تجمل فيما يلي:
1/ مداومة الشخص على استثمار المال ،لأن في تعطيله إضراراً بصاحبه ،و بنماء ثروة المجتمع.
2/ أداء زكاته إذا بلغ نصاباً،لأن الزكاة حق المال،و كذلك إنفاقه في سبيل الله.
3/ اجتناب الطرق المحرمة للحصول عليه ،كالربا ،و الغش و الاحتكار و نحوه.
4/ عدم الإسراف في بذله أو التقتير.

- وسائل الملكية الجماعية ،و لها مظاهر كثيرة ،نوجزها في الآتي:
المظهر الأول :الموارد الطبيعية العامة ،و هي التي يتناولها جميع الناس في الدولة دون جهد أو عمل . كالماء ،و الكلأ ،و النار ،و ملحقاتها.
المظهر الثاني :الموارد المحمية ،أي التي تحميها الدولة لمنفعة المسلمين أو الناس كافة ،مثل :المقابر ،والمعسكرات ،و الدوائر الحكومية ،والأوقاف ،والزكوات و نحوها.
المظهر الثالث :الموارد التي لم تقع عليها يد أحد ،أو وقعت عليها ثم أهملتها مدة طويلة كأرض الموات.
المظهر الرابع :الموارد التي تجنيها الدولة بسبب الجهاد كالغنائم والفيء ونحوها

هـ- حرية العمل: العمل عنصر فعال في كل طرق الكسب التي أباحها الإسلام، و له شرف عظيم باعتباره قوام الحياة ولذلك فإن الإسلام أقر بحق الإنسان فيه في أي ميدان يشاؤه ولم يقيده إلا في نطاق تضاربه مع أهدافه أو تعارضه مع مصلحة الجماعة. و لأهمية العمل في الإسلام اعتبر نوعاً من الجهاد في سبيل الله ،كما روى ذلك كعب بن عجرة –رضي الله عنه –قال : (مر على النبي صلى الله عليه و سلم رجل ،فرأى أصحاب الرسول الله صلى الله عليه و سلم من جلده و نشاطه، فقالوا :يا رسول الله ،لو كان هذا في سبيل الله، فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن كان خرج يسعى على ولده صغاراً، فهو في سبيل الله،و إن خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله ،و إن كان خرج يسعى على نفسه يعضها فهو في سبيل الله، و إن كان خرج يسعى رياء و مفاخرة فهو في سبيل الشيطان). وهكذا نجد كثيراً من نصوص الكتاب و السنة ،تتحدث عن العمل و تحث عليه وتنوه بأعمال متنوعة كصناعة الحديد و نجارة السفن ،و فلاحة الأرض ،و نحو ذلك ،لأن العمل في ذاته وسيلة للبقاء، و البقاء –من حيث هو – هدف مرحلي للغاية الكبرى، و هي عبادة الله، و ابتغاء رضوانه ، وبقدر عظم الغاية تكون منزلة الوسيلة، فأعظم الغايات هو رضوان الله تعالى، و بالتالي فإن أعظم وسيلة إليها هي العمل و التضحية، و إنما نوه القرآن بالعمل والكسب للتنبيه على عظم فائدته و أهميته للوجود الإنساني، وأنه أكبر نعمة الله على الإنسان.

الصنف الثاني :الحرية المتعلقة بحقوق الفرد المعنوية ،و هذا الصنف يشمل الآتي: أ-حرية الاعتقاد: ويقصد بها اختيار الإنسان لدين يريده بيقين، و عقيدة يرتضيها عن قناعة، دون أن يكرهه شخص آخر على ذلك .فإن الإكراه يفسد اختيار الإنسان، و يجعل المكره مسلوب الإرادة ،فينتفي بذلك رضاه و اقتناعه و إذا تأملنا قول الله تعالى : ((لا إكراه في الدين )) نجد أن الإسلام رفع الإكراه عن المرء في عقيدته، و أقر أن الفكر و الاعتقاد لا بد أن يتسم بالحرية، وأن أي إجبار للإنسان، أو تخويفه، أو تهديده على اعتناق دين أو مذهب أو فكره باطل و مرفوض، لأنه لا يرسخ عقيدة في القلب، و لا يثبتها في الضمير. لذلك قال تعالى : ((و لو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين )) و قال أيضاً ((فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر )) كل هذه الآيات و غيرها ،تنفي الإكراه في الدين،و تثبت حق الإنسان في اختيار دينه الذي يؤمن به. هذا و يترتب على حرية الاعتقاد ما يلي:
1) إجراء الحوار و النقاش الديني ،وذلك بتبادل الرأي و الاستفسار في المسائل الملتبسة ،التي لم تتضح للإنسان ،و كانت داخلة تحت عقله و فهمه –أي ليست من مسائل الغيب – وذلك للاطمئنان القلبي بوصول المرء إلى الحقيقة التي قد تخفى عليه، وقد كان الرسل والأنبياء عليهم الصلاة و السلام يحاورون أقوامهم ليسلموا عن قناعة و رضى و طواعية ، بل إن إبراهيم –أبا الأنبياء عليه السلام –حاور ربه في قضية ((الإحياء و الإماتة )) ليزداد قلبه قناعة و يقيناً و ذلك فيما حكاه القرآن لنا في قوله تعالى : ((وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى و لكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءاً ثم ادعهن يأتينك سعياً فلما تبين له قال أعلم أن الله عزيز حكيم )) بل إن في حديث جبريل عليه السلام ،الذي استفسر فيه رسول الله صلى الله عليه و سلم عن ((الإسلام ))و ((الإيمان ))و ((الإحسان )) و ((علامات الساعة )) دليل واضح على تقرير الإسلام لحرية المناقشة الدينية ،سواء كانت بين المسلمين أنفسهم، أو بينهم و بين أصحاب الأديان الأخرى، بهدف الوصول إلى الحقائق و تصديقها، لا بقصد إثارة الشبه و الشكوك و الخلافات، فمثل تلك المناقشة ممنوعة، لأنها لا تكشف الحقائق التي يصل بها المرء إلى شاطئ اليقين.

2) ممارسة الشعائر الدينية ،و ذلك بأن يقوم المرء بإقامة شعائره الدينية ،دون انتقاد أو استهزاء ، أو تخويف أو تهديد،و لعل موقف الإسلام الذي حواه التاريخ تجاه أهل الذمة –أصحاب الديانات الأخرى –من دواعي فخره و اعتزازه ،و سماحته ،فمنذ نزل الرسول صلى الله عليه و سلم يثرب –المدينة المنورة –أعطى اليهود عهد أمان ، يقتضي فسح المجال لهم أمام دينهم و عقيدتهم، و إقامة شعائرهم في أماكن عبادتهم .ثم سار على هذا النهج الخلفاء الراشدون ،فكتب عمر بن الخطاب –رضي الله عنه – لأهل إيلياء –القدس- معاهدة جاء فيها : (( هذا ما أعطاه عمر أمير المؤمنين ، أهل ايلياء من الأمان ،أعطاهم أمانا على أنفسهم ،و لكنائسهم و صلبانهم ،،، لا تسكن كنائسهم ولا تهدم و لا ينتقص منها و لا من غيرها و لا من صلبهم، و لا يكرهون على دينهم ،و لا يضار أحد منهم )) و ها هم علماء أوروبا اليوم ،يشهدون لسماحة الإسلام ،و يقرون له بذلك في كتبهم .قال ((ميشود )) في كتابه (تاريخ الحروب الصليبية ) : (( إن الإسلام الذي أمر بالجهاد ،متسامح نحو أتباع الأديان الأخرى و هو قد أعفى البطاركة و الرهبان و خدمهم من الضرائب،و قد حرم قتل الرهبان –على الخصوص – لعكوفهم على العبادات، ولم يمس عمر بن الخطاب النصارى بسوء حين فتح القدس، وقد ذبح الصليبيون المسلمين و حرقوا اليهود عندما دخلوها )) أي مدينة القدس

ب- حرية الرأي: و تسمى أيضا بحرية التفكير و التعبير، وقد جوز الإسلام للإنسان أن يقلب نظره في صفحات الكون المليئة بالحقائق المتنوعة، و الظواهر المختلفة، و يحاول تجربتها بعقله، و استخدامها لمصلحته مع بني جنسه، لأن كل ما في الكون مسخر للإنسان، يستطيع أن يستخدمه عن طريق معرفة طبيعته و مدى قابليته للتفاعل و التأثير ،ولا يتأتى ذلك إلا بالنظر و طول التفكير.
هذا و لإبداء الرأي عدة مجالات و غايات منها:
1) إظهار الحق و إخماد الباطل ،قال تعالى : ((ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير و يأمرون بالمعروف و ينهون عن المنكر و أولئك هم المفلحون)) فالمعروف هو سبيل الحق ،و لذلك طلب من المؤمن أن يظهره ،كما أن المنكر هو سبيل الباطل ،و لذلك طلب من المؤمن أن يخمده.
2) منع الظلم و نشر العدل ،و هذا ما فعله الأنبياء و الرسل إزاء الملوك و الحكام و يفعله العلماء و المفكرون مع القضاة و السلاطين قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: (أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر ).
3) و قد يكون إبداء الرأي ،بتقديم الأمور حسب أهميتها و أولويتها، و هذا أكثر ما يقوم به أهل الشورى في أكثر من بلد ،و أكثر من مجتمع و قد يكون بأي أسلوب آخر،إذ من الصعب حصرها ،و لكنها لا تعني أن يخوض الإنسان فيما يضره، ويعود عليه بالفساد، بل لا بد أن تكون في إطار الخير والمصلحة إذ الإسلام بتقريره حرية الرأي ، إنما أراد من الإنسان أن يفكر كيف يصعد، لا كيف ينزل، كيف يبني نفسه و أمته،لا كيف يهدمها سعياً وراء شهوتها وهواها.
وباستعراض التاريخ الإسلامي ،نجد أن ((حرية الرأي )) طبقت تطبيقاً رائعاً ،منذ عصر النبوة ،فهذا الصحابي الجليل ،حباب بن المنذر ، أبدى رأيه الشخصي في موقف المسلمين في غزوة بدر ،على غير ما كان قد رآه النبي صلى الله عليه و سلم ،فأخذ النبي صلى الله علبه و سلم برأيه ، و أبدى بعض الصحابة رأيهم في حادثة الإفك ،و أشاروا على النبي صلى الله عليه و سلم بتطليق زوجته عائشة –رضي الله عنها – إلا أن القرآن برأها ،و غير ذلك من المواقف الكثيرة التي كانوا يبدون فيها آراءهم

ج-حرية التعلم: طلب العلم و المعرفة حق كفله الإسلام للفرد،و منحه حرية السعي في تحصيله،و لم يقيد شيئاً منه، مما تعلقت به مصلحة المسلمين ديناً و دنيا، بل انتدبهم لتحصيل ذلك كله، و سلوك السبيل الموصل إليه، أما ما كان من العلوم بحيث لا يترتب على تحصيله مصلحة، و إنما تتحقق به مضرة و مفسدة، فهذا منهي عنه، و محرم على المسلم طلبه، مثل علم السحر و الكهانة ،و نحو ذلك.
و لأهمية العلم و المعرفة في الحياة ،نزلت آيات القرآن الأولى تأمر النبي صلى الله عليه و سلم بالقراءة قال تعالى: ((اقرأ باسم ربك الذي خلق ،خلق الإنسان من علق ،اقرأ و ربك الأكرم ، الذي علم بالقلم ،علم الإنسان ما لم يعلم)) و القراءة هي مفتاح العلم ،و لذلك لما هاجر النبي صلى الله عليه و سلم إلى المدينة،و نصب عليه الكفار الحرب،و انتصر المسلمون و أسروا من أسروا من المشركين، جعل فداء كل أسير من أسراهم ،تعليم القراءة و الكتابة لعشرة من صبيان المدينة و هذا من فضائل الإسلام الكبرى، حيث فتح للناس أبواب المعرفة، و حثهم على و لوجها و التقدم فيها، و كره لهم القعود عن العلم و التخلف عن قافلة الحضارة و الرفاهية و الازدهار. و من أجل ذلك كان على الدولة الإسلامية ،أن تيسر سبل التعليم للناس كافة، و تضمن لكل فرد حقه في ذلك لأن هذا الحق مضمون لكل فرد من رعاياها كسائر الحقوق الأخرى.

د- الحرية السياسية: و يقصد بها حق الإنسان في اختيار سلطة الحكم، و انتخابها ،ومراقبة أدائها، و محاسبتها ،و نقدها، و عزلها إذا انحرفت عن منهج الله و شرعه، و حولت ظهرها عن جادة الحق و الصلاح .
كما أنه يحق له المشاركة في القيام بأعباء السلطة ،و وظائفها الكثيرة ،لأن السلطة حق مشترك بين رعايا الدولة،و ليس حكرا على أحد ،أو وقفا على فئة دون أخرى و اختيار الإنسان للسلطة، قد يتم بنفسه، أو من ينوب عنه من أهل الحل و العقد و هم أهل الشورى، الذين ينوبون عن الأمة كلها في كثير من الأمور منها : القيام بالاجتهاد فيما لا نص فيه ، إذ الحاكم يرجع في ذلك إلى أهل الخبرة و الاختصاص من ذوى العلم و الرأي، كما أنهم يوجهون الحاكم في التصرفات ذات الصفة العامة أو الدولية كإعلان الحرب، أو الهدنة ، أو إبرام معاهدة، أو تجميد علاقات، أو وضع ميزانية أو تخصيص نفقات لجهة معينة أو غير ذلك من التصرفات العامة، التي لا يقطع فيها برأي الواحد. قال تعالى : (( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها و إذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل )) و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: (الدين النصيحة قلنا لمن يا رسول الله قال لله و لرسوله و لأمة المسلمين و عامتهم ).

فتنة المال

الحمد لله الذي بيده خزائن السموات والأرض، يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء بيده الخير إنه على كل شيء قدير، يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل ويخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي، ويرزق من يشاء بغير حساب، وأشهد أن لا إله إلا هو ولا رب غيره ولا معبود بحق سواه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله النبي الكريم، أدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده وترك الأمة على البيضاء ليللها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه الأتقياء الأنقياء الأخفياء البررة وعلى من تبعهم بإحسان وصدق إلى يوم الدين، ثم أما بعد:

أيها المسلمون، إن من رحمة الله بهذه الأمة أنه أخبرها بما سوف تلقاه من الفتن ودلها على سبل الوقاية والحماية منها ، جاءنا الخبر في كتاب ربنا وسنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وإن من الفتن التي أخبر عنها ووقعت فيها هذه الأمة هي فتنة المال، وما أدراك ما المال، المال أذلّ أعناق الرجال، والمال غيّر المبادئ، والمال أنطق الرويبضة في أمر العامة، والمال أفسد أمور الدين والدنيا إذا أخذ بغير حق، والله سبحانه قد أخبر بأن المال مما فطر الناس على محبته وأنه شهوة من شهوات الدنيا، { الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً } [الكهف:46]، وقال جل وعلا عن حال الإنسان مع المال: { وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً } [الفجر:20].

وربنا قد أخبر عن هذه الحقيقة بأن المال فتنة: { وَاعْلَمُواْ أَنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } [الأنفال:28]، والله سبحانه قرر حقيقة باقية وسنة ماضية إلى أن يرث الأرض ومن عليها، وهي كذلك ميزان الله في الآخرة، أن المال ليس بمقياس على علو منزلة الإنسان عند الله لا في الدنيا ولا في الآخرة، وهذا من عدل الله ورحمته بالأمة مصداق ذلك ما جاء في التنزيل: { وَمَآ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ جَزَآءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُواْ وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ } [سبأ:37].

بل إن الله سبحانه بيّن أن المال الذي قد يعطاه من لاخلاق لهم من الكفار لن يكون نافعاً لهم ولا حائلاً عن العذاب الذي يصيبهم، وهي رسالة لكل من بهرته الدينا التي يعيش فيها من حاد عن دين الله وعن شرعه ولم ينعم بهذه الشريعة، إذ يقول جل شأنه: { فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ } [التوبة55]، { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ } [آل عمران:10].

واعلموا رحمكم الله أن الفتنة بالمال أخذت صوراً شتى في كل العصور، وبرزت في عصرنا هذا، فوجب التنبيه ولفت الأنظار لها، فرُبَّ مفتون لاهٍ ساهٍ غافلٍ يظن أنه على طريق صحيح وهو في طريق هلكة -والعياذ بالله-.

وهذه الصور على سبيل الإجمال كما يلي:

الصورة الأولى:
الاشتغال بالمال- ولو كان حلالاً- عن طاعة الله وعن ذكره وشكره، كما قال تعالى: { يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } [المنافقون:9]، ويقول سبحانه: { سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَآ أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا } [الفتح:11].

فكم من رجل كان يحافظ على الصلوات وعلى قراءة القرآن وغيرها من أعمال البر، ومن إن شغلته الدنيا وجرى المال بين يديه حتى أصبح يمر عليه رمضان والمواسم الفاضلة فلا يقرأ كتاب الله، ولا يصلي، ولا يحضر مجالس الذكر، فضلاً عن غيرها من الأيام، فليحذر المؤمن وليعلم أن الذي رزقه المال هو الله -نسأل الله الثبات حتى الممات-.

وحتى نعدل في قولنا ونكون دقيقين في تصويرالواقع إن الإنسان ليقف وقفة إكبار واحترام لأناس يملكون الدنيا بأيديهم، وتجدهم من أحرص الناس على الطاعات وحضور الجماعات وكل ما يقربهم إلى رب الأرض والسموات، فهنيئاً لهؤلاء الذين حازوا خير الدنيا والآخرة، وهؤلاء هم الذين تنزل عليهم البركات وتحل عليهم المكرمات.

الصورة الثانية:
كراهية الانفاق في سبيل الله: وعلى رأسها الزكاة الواجبة، فبعض الناس ينفق الأموال الطائلة في الولائم والعزائم وفي أمور اللهو والترف، وحينما يُدعى للإنفاق فيما يعتق رقبته وينجيه يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، رأيت الكراهية في وجهه، فيعرض و ينسى قول الله جل وعلا في حق المنافقين: { فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُواْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } [التوبة:81 ].

ولا ننسى أولئك الأخفياء الأتقياء الذين ينفقون أموالهم في وجوه الخير، فنقول لهم أبشروا فوالله إنه عند ربنا في كتاب لا يضلّ ربنا ولا ينسى، فإن جهِلَكُم الناس فلكم موعد عند رب الأرض والسموات، يبيض فيها وجوهكم ويخلف عليكم خيراً فيما أنفقتموه.

الصورة الثالثة:
عدم التحري في المعاملات المالية وعدم السؤال عن ما يدخل إليه أمن حرام أمن حلال، والتساهل في ذلك وعدم سؤال أهل العلم عما يشكل عليه من المعاملات « ولن تزولا عبد يوم القيامة حتى يسأل عن هذا المال من أين اكتسبه وفيم أنفقه » ، وإن من أعظم الفتن التي وقع فيها بعض الناس أن يتتبع الرخص ومن يجيز له المعاملات الربوية والمحرمة -نسأل الله السلامة والعافية-، وليتذكر الإنسان يوم العرض على الله ويتذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: « أيما جسد نبت على السحت فالنار أولى به ».

لقد طاشت عقول الناس مع الأسهم والمساهمات مع وجود البدائل المباحة والحمد لله. وكذلك من جوانب الفتنة بالمال، إقبال الناس على المسابقات المحرمة التي هي من الميسر، كمن يشترط للحصول على الجائزة أن تشتري من بضاعته أو أن تتصل بمال عن طريق بطاقة مسبقة الدفع للمشاركة في مسابقة كل هذا من القمار المحرم، وحتى لا نعمم قولنا، فإن من مظاهر الخير في هذه الأمة سؤال الناس وبإلحاح عن كثير من المساهمات المطروحة عبر وسائل الإعلام المختلفة مما يدل على تعظيم حرمات الله في قلوبهم نسأل الله أن يثبتهم وأن يرزقنا وإياهم الرزق الحلال المبارك.

الصورة الرابعة:
 أكل أموال الناس بالباطل، والتحايل على أكلها بشتى الوسائل والحيل الملتوية، فهذا يماطل في صرف مستحقات أو بدلات لبعض الأجراء أوبعض الموظفين، وهذا يطلب الرشوة لكي يمرر المعاملات خاصة في مجال الصكوك والأراضي أو أخذ التراخيص للأنشطة التجارية، أو ترسية المناقصات والعقود، أو جحد الدائن مَنْ ديَّنهُ إذا لم يكن لديه بينة، أو من كتب عقاراً أو مؤسسة باسم شخص ثم جحده ماله وما كسبه، كل هذا من أكل أموال الناس بالباطل كما قال جل وعلا: { وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقاً مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } [البقرة:188]،ويقول سبحانه : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً } [النساء:29].

وليتذكر أولئك النفر الذين وقعوا في هذه الفتنة، قول النبي صلى الله عليه وسلم: « لعن الله الراشي والمرتشي »، فلا تخسر دينك ودنياك فينزع الله البركة من المال الذي تأخذه بالباطل، فكم تعطّلت مصالح لأناس وكم حرم أناس من حقوقهم بسبب هؤلاء المرتشين، فاللهم أصلح أحوال المسلمين في كل الميادين يارب العالمين.

الصورة الخامسة:
 أكل مال اليتيم. يقول جل وعلا : { وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً } [النساء:2]، ويقول سبحانه مهدداً ومتوعداً: { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً } [النساء:10]، فليتق الله أناس أخذوا أموال اليتامى بغير حق أو حرموهم نصيبهم من الإرث أو نحو ذلك، وليتذكروا أن هناك موعداً يلتقي فيه الخصوم عند ملك الملوك وعلام الغيوب. يامن أخذتم أموال اليتامى ظلماً اليوم عمل ولا حساب، فاغتنموا الفرصة وتوبوا إلى الله قبل فوات الأوان، فإن الجزاء من جنس العمل فإن أخذ المال بغير حقه ممحقة للبركة، وقد يلحق نزع البركة أبناءكم ومن تعولون إما في حياتكم أو بعد موتكم، فاللهم ألهمنا رشدنا وقنا شر أنفسنا.

الصورة السادسة:
 عدم إعطاء الأجير أجره، من خادم أو خادمة أو سائق أو عامل أو من بنى لك داراً، أو كان يعمل لديك في عمل أو من كان له سعي في صفقة أو عقد كل هؤلاء سوف يخاصمون من ظلموهم ولم يعطوهم حقوقهم، وقد كثر هذا في الآونة الأخيرة، وللأٍسف وهو من صور الفتنة بالمال والهلع على الدنيا -نسأل الله السلامة والعافية-. وإن عجبك لا ينقضي من أناس يجحدون رواتب العمال المساكين -الذين يصل راتب البعض إلى قيمة وجبة غداء أو عشاء عند بعض المترفين- فاللهم رحمتك.

الصورة السابعة:
سؤال الناس من غير حاجة: كمن يرفع للموسرين بأنه مستحق للزكاة وهو يكذب في ذلك، أو من يسأل الناس في المساجد وهو غير صادق، وليتذكر هؤلاء قول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: « لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله تعالى وليس في وجهه مُزْعة لحم » .

وجاء في صحيح مسلم: « من سأل الناس تكثراً فإنما يسأل جمراً، فليستقل أو ليستكثر »، وأبشر يامن أصبت بالفاقة والحاجة ولم تسأل الناس بأن الله سوف يسدّ عنك حاجتك؛ فقد جاء في الترمذي وأبي دواد عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى اللع ليه وسلم: « من أصابته فاقة فأنزلها بالناس لن تسد فاقته، ومن أنزلها بالله فيوشك الله له برزق عاجل أو آجل ».

الصورة الثامنة:
إنفاق المال للصد عن سبيل الله، وإغواء عباد الله بأنواع من الفتن، كمن يطلق قنوات فضائية غنائية وغير غنائية فيها الفحش والتعري، أو فيها الدعوة إلى تقليد الأعداء والسير في ركابها، وفيها تخدير العقول وتعطيل الطاقات، والإعجاب بالأعداء وبعاداتهم وتقاليدهم، ونزع حاجز العداوة الذي بيننا وبينهم.

كل من أنفق هذه الأموال في هذه المنابر هو من الصادين عن سبيل الله، وكذلك من يقومون بالدعاية لها أو الترويج لها ببيع أو تسويق ونحوها -نسأل الله أن يكف أذاهم عن المسلمين وأن يصلحهم ويردهم إلى الإسلام رداً جميلاً-، وما علموا أن هذا ليس من أخلاق المسلمين، بل هو من ديدن أعداء الله الكافرين. وصدق الله إذ يقول: { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ } [الأنفال:36].

الصورة التاسعة:
المراءات والمباهاة بالمال والمنّ به -وخاصة إذا كانت نفقة شرعية-. وهو نوع من المنّ والأذى، كما قال جل وعلا: { يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَآءَ النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } [البقرة:264].

الصورة العاشرة:
التقصير في النفقة الواجبة على الأهل والعيال. إن من صور الرحمة بالأمة ومن صور التكافل الاجتماعي، أن أوجب الله على الرجل القادر أن ينفق ويطلب المال لكي يعيل أهله ويوفر لهم سبل الراحة والاستقرار، فإن المال عصب الحياة: { وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا } [البقرة:233].

وقد جاءت النصوص الشرعية ببيان وجوب النفقة على العيال والزوجة ومن يعول من والد أو ولد، والتحذير من التفريط في ذلك، بل رغبت في الانفاق على الأهل والعيال وأنها من الإنفاق في سبيل الله، ومن أعظم وجوه الخير التي ينفق فيها. فقد جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « دينار أنفقته في سبيل الله ودينار أنفقته في رقبة ودينار تصدقت به على مسكين ودينار أنفقته على أهلك أعظمها أجراً الذي أنفقته على أهلك » رواه مسلم.

وعن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه سلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:« أفضل دينار ينفقه الرجل دينار ينفقه على عياله ودينار ينفقه على دابته في سبيل الله ,ودينار ينفقه على أصحابه في سبيل الله » رواه مسلم.

وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قلت يا رسول الله هل لي أجرٌ في بني أبي سلمة أن أنفق عليهم ولست بتاركتهم هكذا وهكذا، إنما هم بنيَّ؟ فقال: « نعم لك أجر ما أنفقت عليهم » متفق عليه. وجاء في حديث طويل متفق عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال لسعد بن أبي وقاص: « وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أُجرت بها حتى ما تجعل في فِي امرأتك » متفق عليه.

وجاء الوعيد على من ضيع من يعول ، فقد جاء في صحيح مسلم « كفى بالمرء إثماً أن يحبس عمن يملك قوته » ، وجاء في رواية الترمذي « كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت ».

وإنه لمن المؤسف أن تجد بعض الأبناء يتمنى أن يموت والدهم من شدة تقتيرهم وبخله وعدم الإنفاق عليهم، وليعلم الرجال أن النفقة واجبة عليهم ولو كانت المرأة غنية فهو حق لها أعطاها الله.

من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد...

فإن للشهوات سلطاناً على النفوس، واستيلاء وتمكناً في القلوب، فتركها عزيز، والخلاص منها عسير، ولكن من اتقى الله كفاه، ومن استعان به أعانه: وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ وإنما يجد المشقة في ترك المألوفات والعوائد من تركها لغير الله، أما من تركها مخلصاً لله فإنه لا يجد في تركها مشقة إلا أول وهلة؛ ليُمتَحن أصادق في تركها أم كاذب، فإن صبر على تلك المشقة قليلاً استحالت لذة، وكلما ازدادت الغربة في المحرم، وتاقت النفس إلى فعله، وكثرت الدواعي للوقوع فيه عظُم الأجرُ في تركه، وتضاعفت المثوبة في مجاهدة النفس على الخلاص منه.

ولا ينافي التقوى ميلُ الإنسان بطبعه إلى الشهوات، إذا كان لا يغشاها، ويجاهد نفسه على بغضها، بل إن ذلك من الجهاد ومن صميم التقوى، ثم إن من ترك لله شيئاً عوّضه الله خيراً منه، والعوض من الله أنواع مختلفة، وأجلّ ما يُعوّضُ به: الأنسُ بالله، ومحبته، وطمأنينة القلب بذكره، وقوته، ونشاطه، ورضاه عن ربه تبارك وتعالى، مع ما يلقاه من جزاء في هذه الدنيا، ومع ما ينتظره من الجزاء الأوفى في العقبى.


نماذج لأمور من تركها لله عوّضه الله خيراً منها:

1 - من ترك مسألة الناس، ورجاءهم، وإراقة ماء الوجه أمامهم، وعلق رجاءه بالله دون سواه عوّضه خيراً مما ترك، فرزقه حرية القلب، وعزة النفس، والاستغناء عن الخلق { ومن يتصبر بصبره الله ومن يستعفف يعفه الله }.

2 - ومن ترك الاعتراض على قدر الله، فسلّم لربه في جميع أمره رزقه الله الرضا واليقين، وأراه من حسن العاقبة ما لا يخطره له ببال.

3 - ومن ترك الذهاب للعرافين والسحرة رزقه الله الصبر، وصدق التوكل، وتَحَقُقَ التوحيد.

4 - ومن ترك التكالب على الدنيا جمع الله له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة.

5 - ومن ترك الخوف من غير الله، وأفرد الله وحده بالخوف سَلمَ من الأوهام، وأمّنه الله من كل شيء، فصارت مخاوفه أمناً وبرداً وسلاماً.

6 - من ترك الكذب، ولزم الصدق فيما يأتي ويذر هُدي إلى البر، وكان عند الله صديقاً، ورزق لسان صدق بين الناس، فسوّدوه، وأكرموه، وأصاغوا السمع لقوله.

7 - ومن ترك المراء وإن كان مُحقاً ضُمن له بيت في ربض الجنة، وسلم من شر اللجاج والخصومة، وحافظ على صفاء قلبه، وأمن من كشف عيوبه.

8 - ومن ترك الغش في البيع والشراء زادت ثقة الناس به، وكثر إقبالهم على سلعته.

9 - ومن ترك الربا، وكسب الخبيث بارك الله في رزقه، وفتح له أبواب الخيرات والبركات.

10 - ومن ترك النظر إلى المحرم عوّضه الله فراسة ضادقة، ونوراً وجلاءً، ولذة يجدها في قلبه.

11 - ومن ترك البخل، وآثر التكرم والسخاء أحبه الناس، واقترب من الله ومن الجنة، وسلم من الهم والغم وضيق الصدر، وترقى في مدارج الكمال ومراتب الفضيلة وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ .

12 - ومن ترك الكبر، ولَزمَ التواضع كمل سؤدده، وعلا قدره، وتناهى فضله، قال فيما رواه مسلم في الصحيح: { ومن تواضع لله رفعه }.

13 - ومن ترك المنام ودفأة ولذتة، وقام يصلي لله عز وجل عوضه الله فرحاً، ونشاطاً، وأنساً.

14 - ومن ترك التدخين، وكافة المسكرات والمخدرات أعانه الله، وأمده بألطاف من عنده، وعوضه صحة وسعادة حقيقية، لا تلك السعادة الوهمية العابرة.

15 - ومن ترك الإنتقام والتشفي مع قدرته على ذلك، عوضه الله إنشراحاً في الصدر، وفرحاً في القلب؛ ففي العفو من الطمأنينة والسكينة والحلاوة وشرف النفس، وعزها، وترفعها ما ليس شيء منه في المقابلة والانتقام.

قال فيما رواه مسلم: { وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً }.

16 - ومن ترك صحبة السوء التي يظن أن بها منتهى أنسه، وغاية سروره عوضه الله أصحاباً أبراراً، يجد عندهم المتعة والفائدة، وينال من جراء مصاحبتهم ومعاشرتهم خيري الدنيا والآخرة.

17 - ومن ترك كثرة الطعام سلم من البطنة، وسائر الأمراض، لأن من أكل كثيراً شرب كثيراً، فنام كثيراً، فخسر كثيراً.

18 - ومن ترك المماطلة في الدَّين أعانه الله، وسدد عنه بل كان حقاً على الله عونه.

19 - ومن ترك الغضب حفظ على نفسه عزتها وكرامتها، ونأى بها عن ذل الاعتذار ومغبة الندم، ودخل في زمرة المتقين الكاظمين الغيظ .

جاء رجل إلى النبي فقال: يا رسول الله أوصني! قال: { لا تغضب } [رواه البخاري].

قال الماوردي رحمه الله: ( فينبغي لذي اللب السوي والحزم القوي أن يتلقى قوة الغضب بحلمه فيصدّها، ويقابل دواعي شرته بحزمه فيردها؛ ليحظى بأجلّ الخيرة، ويسعد بحميد العاقبة ).

وعن أبي عبلة قال: غضب عمر بن عبدالعزيز يوماً غضباً شديداً على رجل، فأمر به، فأُحضر وجُرّد، وشُدّ في الحبال، وجيء بالسياط، فقال: خلو سبيله؛ أما إني لولا أن أكون غضباناً لسؤتك، ثم تلا قوله تعالى: والكاظمين الغيظ .

20 - ومن ترك الوقيعة في أعراض الناس والتعرض لعيوبهم ومغامزهم عُوّض بالسلامة من شرّهم، ورزق التبصر في نفسه.

قال الأحنف بن قيس رضي الله عنه: ( من أسرع إلى الناس فيما يكرهون قالوا فيه ما لا يعلمون ).

وقالت أعرابية توصي ولدها: ( إياك والتعرّض للعيوب فتتخذ غرضاً، وخليق ألا يثبت الغرض على كثرة السهام وقلما اعتورت السهام غرضاً حتى يهي ما اشتد من قوته ).

قال الشافعي رحمه الله:


المرء إن كان مؤمناً ورعاً *** أشغله عن عيوب الورى ورعه


كما السقيم العليل أشغله *** عن وجع الناس كلهم وجعه

21 - ومن ترك مجاراة السفهاء، وأعرض عن الجاهلين حمى عرضه، وأراح نفسه، وسلم من سماع ما يؤذيه خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف:199].

22 - ومن ترك الحسد سلم من أضراره المتنوعة؛ فالحسد داء عضال، وسم قاتل ومسلك شائن، وخلق لئيم، ومن لؤم الحسد أنه موكل بالأدنى فالأدنى من الأقارب، والأكفاء، والخلطاء، والمعارف، والإخوان.

قال بعض الحكماء: ( ما رأيت ظالماً أشبه بمظلوم من الحسود، نفس دائم، وهم لازم، وقلب هائم ).

23 - ومن سلم من سوء الظن بالناس سلم من تشوش القلب، واشتغال الفكر، فإساءة الظن تفسد المودة، وتجلب الهم والكدر، ولهذا حذرنا الله عز وجل منها فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ . وقال : { إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث } [رواه البخاري ومسلم].

24 - ومن اطَّرح الدعة والكسل، وأقبل على الجد والعمل عَلَت همته، وبورك له في وقته، فنال الخير الكثير في الزمن اليسير.


ومن هجر اللذات نال المنى ومن *** أكب على اللذات عض على اليد

25 - ومن ترك طلب الشهرة وحب الظهور رفع الله ذكره، ونشر فضله، وأتته الشهرة تُجَرّر أذيالها.

26 - ومن ترك العقوق، فكان برّاً بوالديه رضـي الله عنه، ورزقه الله الأولاد الأبرار وأدخله الجنة في الآخرة.

27 - ومن ترك قطيعة أرحامه، فواصلهم، وتودد إليهم، واتقى الله فيهن؛ بسط الله له في رزقه، ونَسَأَ له في أثره، ولا يزال معه ظهير من الله ما دام على تلك الصلة.

28- ومن ترك العشق، وقطع أسبابه التي تمده، وتجرَّع غصص الهجر ونار البعاد في بداية أمره، وأقبل على الله بكليته؛ رُزِقَ السلوَ وعزة النفس، وسلم من اللوعة والذلة والأسر، ومُلئ قلبه حريةً ومحبةً لله عز وجل تلك المحبة التي تلم شعث القلب، وتسدُّ خلته، وتشبع جوعته، وتغنيه من فقره؛ فالقلب لا يسر ولا يفلح، ولا يطيب ولا يسكن، ولا يطمئن إلا بعبادة ربِّه، وحبِّه، والإنابة إليه.

29- ومن ترك العبوس والتقطيب، واتصف بالبشْر والطلاقة؛ لانت عريكته، ورقَّت حواشيه، وكثر محبوه، وقلَّ شانؤوه.

قال : { تبسُّمك في وجه أخيك صدقة } [أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن غريب].

قال ابن عقيل الحنبلي: ( البِشْر مُؤَنِّسٌ للعقول، ومن دواعي القبول، والعبوس ضده ).

وبالجملة فمن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه. فالجزاء من جنس العمل فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ [الزلزلة:8،7].

مثال على من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه:

وإذا أردت مثالاً جليّاً، يبين لك أن من ترك شيئاً لله عوَّضه الله خيراً منه فانظر إلى قصة يوسف عليه السلام مع امرأة العزيز، فلقد روادته عن نفسه فاستعصم، مع ما اجتمع له من دواعي المعصية، فلقد اجتمع ليوسف ما لم يجتمع لغيره، وما لو اجتمع كله أو بعضه لغيره لربما أجاب الداعي، بل إن من الناس من يذهب لمواقع الفتن بنفسه، ويسعى لحتفه بظلفه، ثم يبوء بعد ذلك بالخسران المبين، في الدنيا والآخرة، إن لم يتداركه الله برحمته.

أما يوسف عليه السلام فقد اجتمع له من دواعي الزنا ما يلي:

1 - أنه كان شاباً، وداعية الشباب إلى الزنا قوية.

2 - أنه كان عزباً، وليس له ما يعوضه ويرد شهوته.

3 - أنه كان غريباً، والغريب لا يستحيي في بلد غربته مما يستحيي منه بين أصحابه ومعارفه.

4 - أنه كان مملوكاً، فقد اشتُري بثمن بخس دراهم معدودة، والمملوك ليس وازعُه كوازع الحر.

5 - أن المرأة كانت جميلة.

6 - أن المرأة ذات منصب عال.

7 - أنها سيدته.

8 - غياب الرقيب.

9 - أنها قد تهيأت له.

10 - أنها أغلقت الأبواب.

11 - أنها هي التي دعته إلى نفسها.

12 - أنها حرصت على ذلك أشد الحرص.

13 - أنها توعدته إن لم يفعل بالصغار.

ومع هذه الدواعي صبر إيثاراً واختياراً لما عند الله، فنال السعادة والعز في الدنيا، وإن له للجنة في العقبى، فلقد أصبح السيد، وأصبحت امرأة العزيز فيما بعد كالمملوكة عنده، وقد ورد أنها قالت: ( سبحان من صير الملوك بذلك المعصية مماليك، ومن جعل المماليك بعز الطاعة ملوكاً ).

فحري بالعاقل الحازم، أن يتبصر في الأمور، وينظر في العواقب، وألا يؤثر اللذة الحاضرة الفانية على اللذة الآجلة الباقية.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.